الإدريسي يكتب: في قيِمَة الاسْتِقَامَة -14 –
﴿إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هذه هي السَّادسة من سُورة الفاتحة، التي يعيدها المُسلم على الأقل سبع عشرة مرة، بعدد ركعَات الصَّلوات المفروضة دون احتسَاب ركعات النَّوافل، والتلاوة الدائمة لسُورة الفاتحة، وهذه الآية هي جوهر سُورة الفاتحة لأن المؤمن يدعو الله تعالى بالهداية والاستقامة، بعد حمد الله والثناء عليه في الآيات السابقة التي هي عبارة عن تأسيس لهذا الدعاء، ثم الآية التي بعد الدعاء هي عبارة عن تفصيل وبيان لحقيقة الهداية وجوهر الاستقامة، فدعاء الاستقامة بين تأسيس وبيان.
وقيمة الاستقَامة من القيم المركزية في المنظومة القُرآنية، وهي قيمة جامعة لحقائق الدِّين وغاياته، ومؤطِّرة لأحكَامه وتشريعاته، وناظمة لأفعَال المسلم وتصرفاته، دلّ على ذلك كثافة وقوة الأمر القُرآني بالاستقامة، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ سورة هود الآية:112، ويقول سبحانه تعالى : ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ سورة الشورى، الآية : 15، ويقول تعالى:﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ سورة الأنعام، الآية:153. إلى غير ذلك من الآيات القرآنية.
والاستقامة ترجع في جذرها اللغوي إلى مادة (قوم)، قام قياماً، إذا انتصب، والقَوْمة: المرة الواحدة. أيضاً: قوَّمت الشيء تقويماً: إذا قدرت قيمته ومكانته، والاستقامة يقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، واستقامة الإنسان: لزومه المنهج المستقيم. وبه شبه طريق الحق، قال تعالى: ﴿إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، والقرآن الكريم يهدي إلى التي هي أقوم: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ سورة الإسراء، الآية:9.
وتتخذ قيمة الاستقامة في المنظومة القرآنية معاني كثيره، فهي تفيد اتباع ولزوم ما جاء به الشرع أمراً ونهياً،﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾، كما أنها الثبات على طاعة الله والتزام أحكامه وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ﴾ سورة الجن،الآية:16، بمعنى الوفاء بالعهد، يقول تعالى: ﴿عليه كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ سورة التوبة الآية:7. والثبات على التوحيد، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ سورة فصلت، الآية: 30.
وإذا أردنا أن نكثف هذه المَعاني فإن قيمة الاستقَامة تعني الثبات على الأمر والدوام والاستمرار عليه والتمسك بها والعض عليها بالنواجذ، لأن مقتضَيات ذلك السّداد في إقامة التكاليف، مما يؤثر بشكل إيجابي على مجمل سلوك الإنسان المستقيم، يقول الدكتور أحمد الريسوني: “ومن أهم أشكال الاستقامة ومجلاتها: استقامة الفكر والمنهج الفكري، وذلك باتباع الحجج العلمية والعقلية، دونما التواء أو تحريف أو تلبيس، ودونما محاباة أو مغالاة، وهذا ما عناه الإمام ابن تيمية في كتابه “الاستقامة”، فقد ركز فيه على منهج الاستقامة والاعتدال، ومتابعة الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده.. فالعمل العلمي والمجهود الفكري، مالم يكن محكوما بخلق الاستقامة وما في ضمنه من نزاهة وأمانة وصدق، يمكن أن يكون أقبح أنواع الانحراف والتحريف، وأشد أنواع الضلال والتضليل، فالاستقامة لا تتبعض ولا تتجزأ، ولذلك جاء الشرع بطلب الاستقامة على العموم والإطلاق…، فهي صراط ومنهج كامل شامل، غير منحصر في مجال معين أو حتى مجالات محددة”(الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية).
وقد ميز الحق سبحانه و تعالى بين الإنسان الكَلّ والإنسان العَدل، فالإنسان العدل إيجابي رسالي، يمتلك نظرة سليمة إيجابية للوجود، وله رؤية قويمة سديدة حول المصير، يقول تعالى:﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾سورة النحل الآية :76، بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإنسَان العدل الذي يسير على المنهج القويم والصراط المستقيم، يحقق التَّكامل والانسجام بين ظاهره وباطنه، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام :(لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيمَ لسانُه) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
ومن الأسئلة التي تشغل بالي وتسكن تفكيري، هو كيف نغرس قيمة الاستقامة في نفوس وعقول وقلوب الناشئة، لأن الاستقامة مهمة جدا في حياة الإنسان، ولا سبيل إلى تعززيها وترسيخها إلا في مرحلة الطفولة، لأن هذه القيمة تحميه الإنسان من الانحراف والانجراف.
وفي هذا السياق أستحضر الحديث الذي رواه الإمام الترمذي، فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:” يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”.
ولذلك كَانت الاستقَامة من أهم وصَايا الرسول عليه الصَّلاة والسلام لأمته، فقد جَاءه سفيان بن عبد الله الثقفي، طالبًا منه أن يعلمه منهجا كاملا شاملا جامعا مانعا، حتى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسال عنه أحدًا بعدك قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم.
والسُّؤال هل يمكِن أن نَعيش بدُون استقَامة؟