الإدريسي يكتب: في قيِمَة الإِصْلاح -9 –
للمفَاهيم والقِيم القرآنية عُمق وثِقل وشُمول، تنفرد بها عن باقي المفاهيم في المصادر والمرجعيات الأخرى، هذه الحقيقة أكدتها الكثير من الآيَات القرآنية من قبيل قوله تعالى: ﴿ ِإنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ سورة المزمل، الآية :5 ،وقوله تعالى:﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ سورة الحشر، وقوله سبحانه وتعالى:﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ سورة الكهف، الآية: 109. هذه الخاصية تتعلق بأي كلمة من كلمات القرآن المجيد، فكيف بكلمة ” الإصلاح”، وهي من الكلمَات الكثيرة الاستعمَال في القُرآن العظيم؟
وبالرُّجوع إلى القرآن المجيد يظهر جليًّا أن لفظة الإصْلاح ومادتها، تشغل مساحَات معتبرة في الكثير من السور القرآنية، ونظرا لأهميَّتها المعرفية ومركزيَّتها في منظومة القيم القرآنية، والتي تشكل أسَاسا للبناء الحضَاري والتغيير الاجتمَاعي، فقد ذُكِرت أكثرَ من مائةٍ وسبعين مرة بأساليبَ متنوعة وسياقات مختلفةٍ ومدلولات عَديدة، في تفاعل خلاق ومثمر من خلال تفعيل جدلية النَّص والمتلقي والتي تُشكل خلْفية مؤطِّرَة لعملية الفَهم والتنزيل.
ونظرا لكثرة ورُود لفظة الإصلاح ومشتقاتها في القُرآن الكريم، فإنّني سأشتغل على بضع آيات تفي بالغرض إن شاء الله تعالى، وهي كالآتي:
قوله سبحانه تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ سورة البقرة، الآية :11، وقوله سبحانه أيضا: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ سورة النساء، الآية :114.وقوله أيضا:﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ سورة هود، الآية :88.، وفي سورة الحجرات من الآية العاشرة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
بتدَبر هذه الآيات وغيرها، نستنتج أن قيمَة الإصلاح في القرآن الكريم متشعبة ومستوعبة لكُل القضايا الفردية والجماعية بل ومهيمنة عليها ،في أبعادها الجوانية والبرانية، ومن الدلالات المنهجية لقيمة الإصلاح أن الخطاب القرآني يتغيَّى بناء الإنسان الصَّالح المصلح ،في المعتقد والسلوك والعبادة والمعاملات والعلاقات، واعتَبَر القرآنُ الكريم في آيات كثيرة أن الإصلاح مهمة الأنبياء الأولى ووظيفتهم المركزية والأساسية، باعتباره نسقا في التفكير ومنظومة في التدبير، قال عز وجل على لسان النبي شعيب عليه السلام : ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ .
وفي هذا السياق يزعم المنافقون في كل زمان ومكان أنهم دُعاة الإصلاح وحماته، فقد زعموا في العهد النبوي أنهم مصلحون، قال عز من قائل: ﴿وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، بل في كثير من الأحيان نجد أن المفسدين يرفعون شعار الإصلاح، ولكن الخطاب القرآني حسم الأمر بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾سورة يونس الآية:81،ولذلك بيَّن القرآن الكريم الفرق الشَّاسع والبون الكبير بين الإصْلاح و الإفساد، بين المصلحين والمفسدين في آيات منهاجية، ضابطها “التَّمسيك الاجتماعي” بكتاب الله تعالى، وشرطها إقامة الصلاة،﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ﴾ سورة الأعراف، الآية: 170، يقول الدكتور فريد الأنصاري:« وقد تبين ألا إمكان لإصلاح الفطرة الإنسانية إلا بالقرآن، لأنه إنما أُنزل أساسا لهذا القصد الرباني العظيم، فالقرآن -بما هو كلام خالق الإنسان، العليم بأسرار تكوينه- هو كتاب إصلاح الفطرة الإنسانية وصيانتها، و من هنا كانت الفطرية مدرسة قرآنية بالدرجة الأولى» انظره كتابه(الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام ).
من منطلق هذه الآية يظهر بأن قيمة الإصلاح لا مفعول لها ولا أثر لها، إلا بكونها ذات مرجعية قوية تجمع بين الجهاز المفاهيمي بناء وتأصيلا، والإنجاز العملي تنزيلا وتفعيلا، وبعبارة أخرى إن قيمة الإصلاح، لا بد لها وأن تتأسس على المنطق الفكري والعملي باعتباره أداة لتحريك ركود الإنسان ودفعه نحو الفاعلية وتملُّك سنن التغيير والانبعاث.
علما بإن الأمة اليَوم تعيش حالة من الغياب الحضاري، والانحباس الشهودي في تفعيل الوظيفة الاستخلافية التي أُنيطت بها في إعمَار الأرض وإصلاحها، بسبب تراجع منسوب الفعل الإصلاحي سواء عند النخب أو أفراد المجتمع، وتراجع المصلحين عن وظيفتهم وانسحابهم من ميادين الإصلاح.
إن قيمة الإصلاح في المنظومة القرآنية فكرة خلّاقة، تستطيع تغيير الذهنيات وبناء القناعات، وترشيد المسارات إن عُرضت قيمة الإصلاح من المنظور القرآني بطريقة سليمة وشاملة، وهنا أستحضر تعريفا للإصلاح للفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي حيث يقول: «فالإصلاح هو بالأساس صلح في ذات الإنسان وجوديا بين العقل والإيمان، وهو معرفيا الصلح بين النظرية والتجربة، وجماليا بين الطبيعي والخلقي، وسياسيا بين القوة والشرعية» (مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي).
وللرؤية الإصلاحية في القرآن الكريم فقهٌ لا بد أنْ يُفهم ويُستنبط، ومنهج يجب أن يُعلم ويُضبط، وإلاَّ أضحت قيمة الإصلاح قاصرة، وجهود المصلحين بائرة، وبالتالي عدم القدرة -رغم امتلاكِ الإرادة- والتمكن من إصلاح الأعطاب أو تجديد الخطاب أو تفكيك مَنظُومة التَّخلف التي ترسَّبت عبر سَنوات وعُقود، واستحْكَمت في غالب المَيادين والطبقات، قال تعالى: ﴿إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وهذه الآية تؤكد أن قيمة الإصلاح وقيمة (التوحيد)الإيمان قرينان في الرؤية القرآنية، لكأنها وجهان لعملة واحدة، فالإيمان أساس الإصلاح وقاعدته، والإصلاح نتيجة الإيمان وثمرته.