الأشهر الحرم والتقوى وثمراتها في الدنيا والآخرة
الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، خلق الأنام، ودبر الليالي والأيام، وصرف الشهور والأعوام.
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خير من قال ربي الله ثم استقام، وسيد من أطاع ربه فصلى بالليل و الناس نيام، و إمام من اعتكف وصام، وقدوة كل من حج البيت فلبى وطاف وابتهل بين الركن والمقام.
وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالبقاء والدوام، فضل الأزمان بعضها على بعض، فاختار من بين الشهور أربعة حرمها و شرف قدرها منها شهرنا هذا رجب الفرد الحرام
وأشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدًا عبد الله ورسوله القدوة الإمام لكل الأنام، بلغ الرسالة على التمام، وأدى الأمانة باهتمام، و نصح الأمة وكشف عنها الغمة فعم النور وانجلى الظلام، عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام.
أما بعد، من يطع الله ورسوله فقد رشد واهتدى، و سلك منهاجا قويما وسبيلا رشدا ومن يعص الله ورسوله فقد غوى واعتدى، وحاد عن الطريق المشروع ولا يضر إلا نفسه ولا يضر أحدا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله وسؤله، فإنما نحن بالله وله .
عباد الله : رحم الله من اتقى الله وراقبه، وأدى ما أوجب ربه عليه وحتمه ثم اعلموا -هداكم الله- أن الله اختص أمة الإسلام بأزمنة فضلها، وأمكنة باركها، ورتب على الطاعة فيها أجورًا عظيمة، فمن الأمكنة المباركة مكة المكرمة وفيها المسجد الحرام، والمدينة المنورة وفيها المسجد النبوي الشريف، والقدس وفيها المسجد الأقصى، ومن الأزمنة الفاضلة رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة والأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب؛ قال تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” [التوبة: 36]. وجاء في الحديث الصحيح في خطبة الرسول في حجة الوداع أنه قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحـرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
أيها المؤمنون: إنما سميت هذه الأشهر الأربعة بالأشهر الحرم لعظم حُرمتها وحِرمة الذنب فيها، وقيل: إنما سميت حرمًا لتحريم القتال فيها، وكان ذلك معروفًا في الجاهلية، وقيل: إنه من عهد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.
وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة عند العرب لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة.
عباد الله: اعلموا أن من الصدق في الإيمان أن تجد المؤمن يعظّم ما عظمه الله من شعائر، ويجتنب النواهي ويمتثل الأوامر، يسارع إلى الخيرات والصالحات من الأقوال و الأفعال و الأحوال.
هذا وقد بيّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم بيان في حجة الوداع، فقرر حرمة الزمان وحرمة المكان، وحرمة الدماء والأموال والأعراض؛ فقال في معرض خطبته الطويلة: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه.
وإذا كان المسلم مطالبا بتعظيم حرمات الله على الدوام، فإنه في هذه الأشهر الحرم يتأكد منه ذلك أكثر و أكثر تشريفا لها و صيانة، و تعبيرا عن توقير ما لها من عظيم القدر و المكانة، و كيف لا و قد عد سبحانه تعظيم الحرمات من التقوى فقال تعالى:”وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ”[الحج: 32].
ألا فاعلموا أيها الإخوة المؤمنون أن للتقوى حقيقة، فحقيقتُها: العملُ بطاعةِ اللِه إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعلُ العبد ما أمرَ اللهُ به إيمانًا بالأمرِ وتصديقًا بالوعد و وفاءا بالعهد، ويتركُ ما نهى الله عنه إيمانًا بالنَّهي وخوفًا من وعيده، قالَ طلق بن حبيب: إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعملَ بطاعةِ اللهِ، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ اللِه، وأنْ تتركَ معصيةَ اللهِ، على نورٍ منَ اللهِ، تخافُ عقابَ اللهِ. وهذا أحسنُ ما قيلَ في حدِّ التقوى”.
ثم اعلموا هدانا الله وإياكم إلى طريق المتقين وسلكنا وإياكم منهجها بالصدق واليقين أن للتقوى ثمرات عديدة في الدنيا وفي الآخرة. فأما ثمراتُ التقوى في الدُّنيا فنذكر منها عشرة:
1 – سببٌ لتيسيرِ أمورِ المؤمن؛ قالَ تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].وقال عز شأنه: ﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5-7].
2 – سببٌ للحمايةِ من ضررِ الشيطانِ مسِّه و وسوسَتِه؛ قالَ تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
3 – سببٌ للفتوحاتِ الإلهيِّة بِالبركاتِ السماوية والأرضِية؛ قال سبحانه ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
4 – سببٌ في توفيقِ العبدِ المتحلي بها إلى معرفةِ الفصلِ بين الحقِّ والباطلِ، و تنوير فراسته و سلوك طريق هدايته و تكفير سيئاته قال تعالى: ﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
5 – سببٌ للخروجِ من المآزقِ و المضايق، وحصول الرزقِ والسَّعة للمتقي منْ حيثُ لا يحتسب، قال تعالى: ﴿… وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2-3].
6 – سببٌ لنيلِ الولايةِ؛ فأولياءُ اللهِ هم المتقون؛ كما قال تعالى: ﴿… إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 34]، وقال تعالى: ﴿… وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 19].
7 – سببٌ للحماية منْ ضررِ وكيدِ الكافرينَ، قال تعالى: ﴿… وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضركُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
8 – سببٌ لنزولِ المددِ منَ السَّماءِ عندَ الشَّدائدِ، ولقاءِ الأعداءِ، قال تعالى: ” وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوَّمِينَ ” [آل عمران: 123-125].
9 ـ سببٌ لنيلِ العلمِ اللدني وتحصيلِه؛ قالَ تعالى﴿ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ – [البقرة: 282].
10 – سببٌ لنيلِ رحمةِ اللهِ، وهذه الرحمةُ تكونُ في الدُّنيا كما تكونُ في الآخرةِ؛ قال تعالى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].
ذ. سعيد منقار بنيس