الأستاذ عبد الجليل الجاسني المربي الحازم
عاش الأستاذ عبد الجليل الجاسني في كنف أسرة مغربية تقليدية تنحدر من منطقة عبدة دكالة، وكان يقيم عند عمه وجده الحافظ لكتاب الله، وبعد تخرجه في أواخر سنوات السبعينات من الثانوية التأهيلية مولاي اسماعيل بالدار البيضاء، توجه لكلية الحقوق لدراسة العلوم القانونية لكنه لم يرقه هذا التخصص فتوقف وتوجه صوب مدينة أكادير جنوب المغرب لمواصلة الدراسة في العلوم الشرعية بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين، وبعد تخرجه وطد صلته بالعمل الدعوي … كانت وظيفته أستاذا للسلك الثاني لمادة التربية الإسلامية سندا وعونا له في الإشراف على الملف التربوي لحركة التوحيد والإصلاح التي كان يشغل فيها عضوية مكتبها التنفيذي.. ولم يشغله الهم بالعمل الدعوي الذي كان يحرص على توريثه للأجيال اللاحقة عن الانخراط في العمل الاجتماعي والخيري والمساهمة فيه ومتابعة كل تفاصيله، فقد كان حريصا على تفقد أحوال الناس والسؤال عنهم والاطمئنان على أحوالهم والقيام بمختلف أمور العمل الإحساني في مراحل سابقة.
يصفه مقربوه أنه كان رجل الصدق والثبات على المبادئ يدافع عن ما يؤمن به، لكنه كان يتميز بالحرص الشديد على الانضباط، كما ميزته الشدة في الحق وهذه صفات قل نظيرها في كثير من الناس اليوم.. ويحكي رفاقه في الدرب أنه كان سفير الدعوة أينما حل وارتحل، وعندما أعير للتدريس بإحدى البلدان منذ الموسم 1989 – 1990، حيث جمع في ديار المهجر – بإحدى البلدان حيث قادته الأقدار للمكوث هناك زهاء ثماني سنوات – لفيفا من الأساتذة والطلاب حول حلقات الذكر والدروس التي تركز على التربية والتزكية.
فهذا الداعية والمربي والخطيب، خلف بعده الكثير من البصمات التربوية التي طبعها بحرصه الشديد على الدعوة والتأطير التربوي لمجموعة من الأجيال الذين تربوا على يديه واحتكوا به وعايشوه عن قرب..
وعرف الأستاذ عبد الجليل الجاسني بين أسرته وأقربائه ومن عاشروه بالصدق والزهد والتواضع ودماثة الخلق والجدية والنشاط، تلك الصفات التي شكلت شخصية هذا المربي الفذ إذا تعلق الأمر بالدعوة إلى الله التي نذر حياته لها كما يحكي من عايشوه عن قرب، أو إذا تعلق الأمر بإصلاح أحوال المجتمع الذي كان شغله الشاغل.. ولعل هذه الصفات الراقية هي من اكثر الصفات والأخلاق التي يحتاجها المسلم في حياته ويسعى المربون والدعاة والعلماء الى ترسيخها في نفوس وقلوب الناشئة اليوم والذي فقد هويته وافتقد الى القدوات الصالحة في زمن هجوم قيم الأنانية واللامبالاة والتقليد الاعمى.
والراحل الذي خلف عشرات الدروس التربوية مسجلة في الأشرطة السمعية والبصرية، واشتغل خطيبا وواعظا بعدد من مساجد مدينة الدار البيضاء، تميز بالانشغال بقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، وكل القضايا التي تتعلق بشؤون الأمة الإسلامية ونصرة المستضعفين والمظلومين، ظل إلى آخر وقت من حياته بعد أن باغته مرض السرطان في السنوات الأخيرة اضطر معه مجددا لمغادرة البلاد صوب الخارج لتلقي العلاج، يقول الأستاذ مولاي أحمد صبير عنه أنه كان دائما يسأل عن حال من عاشرهم في مجال الدعوة والتربية ويذكر كل من يزوره بالأخلاق الفاضلة ويحثهم على الارتباط بالقرآن والحرص على الاهتمام بالمجالس التربوية والإكثار منها وتطوريها وجعلها محضنا للناشئة، وهو ما جعل منه سفير الدعوة إلى الله في السراء والضراء .
ويحكي الداعية عز الدين توفيق الذي عايشه عن قرب أنه لا يعرف من الراحل إلا “التفكير الدائم فيما ينفع الأمة، لذلك كان حاضرا في نصرة قضايا الأمة، ولا يغيب عن المهرجانات والمسيرات والوقفات التي تنصر قضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين”
بدوره قال المقرئ الإدريسي أبو زيد، إن من علامات الداعية الناجح والصالح، أن ينجح في أسرته، وهو ما جسده الأستاذ عبد الجليل الجاسني، مشيرا إلى أن الكثير من الدعاة نجحوا في محيطهم الدعوي لكن على حساب أولادهم أو ابتلاهم الله بما ابتلى به الأنبياء منذ آدم الذي قتل أحد أبنائه الآخر إلى نوح ولوط عليهما السلام… وهذا تجسيد عملي لمدى التوازن الروحي والنفسي والاجتماعي الذي كان عليه الاستاذ عبد الجليل الجاسني بحيث انعكس اهتمامه التربوي على أقرب المقربين منه وهم أهله وأبناؤه ..رغم ضغوطات الحياة وكثرة المسؤوليات وضيق الأوقات.. وكان التفاني في العمل التربوي والدعوي ينعكس بركة وسعادة على محيط من سخر كل طاقته لله عزوجل..
وأكد أحمد صبير في شهادته أن الأستاذ عبد الجليل الجاسني كان رجل تربية حيث أنه كان قد رافقه في إحدى المخيمات، فكان آخر من ينام وأول من يستيقظ ويحرص على أن يوقظ من يرافقهم لصلاة الصبح، وهذا مما يؤكد عمق إدراكه للبعد التربوي لشعيرة الصلاة وأثرها في تهذيب وتزكية النفوس وخاصة إذا تعلق الأمر بصلاة الفجر.
ويزكي الدكتور عز الدين توفيق ما قاله الأستاذ أحمد صبير قائلا: إنه ومنذ أن عرفته مشربا بأمر الدعوة، إذ يمكن للإنسان أن يختار درجة التدين الشخصي ويقبل على دينه يقيم أركانه ويصلح أهله وأسرته وهذا مقام عظيم ومرتبة جليلة، ولكن الأفضل منها والأعلى أن يحمل هم الدعوة.
والإنسان عنده رحلة عمر لا بد أن ينظر فيها ما هو أثره في هذه الدنيا قبل أن يرحل، فالأستاذ عبد الجليل ترك أثره في أسرته، وأثره في المؤسسات التعليمية التي عمل فيها، وأثره في الهيئات والجمعيات التي انتسب إليها وعمل فيها، وأثره في حركة التوحيد والإصلاح، وأثره في إصلاح ذات البين، وحتى في مرضه، وقد كنت أصدقاؤه يستغربون من حضوره لكثير من اللقاءات مع أنه كان يعاني مثل أي إنسان يحمل المرض الخبيث.
فكل هذه الآثار التي خلفها الراحل الأستاذ عبد الجليل تعكس مدى إخلاصه وتفانيه في خدمة القضايا التربوية التي تتسع دائرة نفعها للأمة بأسرها، فرحم الله الداعية الراحل وأسكنه فسيح جناته.
توفي الأستاذ عبد الجليل الجاسني عشية يوم الاثنين 08 ذو القعدة 1436 هـ الموافق لـ 24 غشت 2015 م، بأحد مستشفيات الدار البيضاء، عن سن ناهز 57 سنة.
سعيد الصالحي(بتصرف)