اكتشاف مراهق مدخن في بيتنا زمن الحجر الصحي – الحبيب عكي
لقد ألزم الحجر الصحي للوقاية من جائحة “كورونا” الآباء والأمهات المكوث في منازلهم إلى جانب أبنائهم ليل نهار، ومع تتالي الأيام والأسابيع، امتص الجميع الصدمة واعتادوا اضطرارا على الوضع، وكسرا للروتين وتجنبا للكآبة بدأ الآباء الكبار يتقربون من أبنائهم الصغار بغية حمايتهم والتخفيف عن آلامهم و ما يشعرون به من ضغوط الحجر والهلع من المرض والخوف من المجهول وكثافة الدروس عن بعد وانقطاع الصحبة ومناوشات الإخوة والأخوات، فكانت المفاجئة وكأنهم لأول مرة يكتشفون أبنائهم وما حباهم الله به من المواهب.
اجتمع ثلة من زملاء العمل ذات ليلة عبر تقنية التواصل المرئي عن بعد، وكان بينهم من الألفة والدعابة ما يسمح بالبوح ويرفع بينهم الحرج، وبعد طرح السؤال والاطمئنان على الأحوال، أخذوا يتبادلون تجاربهم مع الحجر الصحي وكيف هم مع أبنائهم وكيف يمكنهم معالجة بعض المشاكل المطروحة في الظرف الحالي قياما بالواجب الأسري والتضامني الوطني زمن الحجر.
قال أولهم:”سبحان الله، كان الناس يقولون:”الله يسمح لنا من الوالدين، الحقيقة، راه الله يسمح لنا من الأولاد”، أنا ولدي اكتشفت فيه موهبة قرآنية خارقة – ما شاء الله – يحفظ.. يرتل..يجود..يشرح..وصدقوني لو ترشح لجائزة دولية في التجويد لفاز بها عن جدارة واستحقاق، وانضاف بذلك إلى زملائه من كوكبة القراء المغاربة الكبار والصغار، لكن دعه الآن فقد أصبح إمامنا في المنزل وإن شاء الله مع قدوم رمضان وإغلاق المساجد فسيصلي بنا التراويح.
رد عليه زميله:”سبحان الله، ولدك عكسك تماما يا صديقي.. يخرج المقرئ المجود من المطرب المغني.. يظهر أن الأبناء يكونون عكس آبائهم دائما خاصة إذا تعلق الأمر بالمتطرفين منهم في الفكر والسلوك، أما أنا فهذه ابنتي، اكتشفتها منشدة من الطراز الرفيع..بلبلة..سنورة..سنيورة..تستيقظ بالأناشيد..وتدرس بالأناشيد.. وبهم تأكل وتشرب وتشقى وترتاح وتلعب وتنام.. الله يرضي عليها وخلاص وعلى جمعيتها – لديها من كل الريبرتوارات الإنشادية العالمية القديمة والجديدة ما لا يسمع في إذاعة ولا يرى في تلفاز.. ولا أدري أنا أيضا لما لم أرشحها إلى ستار “هيا ننشد”.
قال آخر على جانب الشاشة:”سعداتكم”،أنا ابنتي رسامة ذات خيال كبير وإبداع وفير، رسمت لنا من اللوحات الحالمة ما كسر عنا رتابة الأيام وقساوة الوباء والبلاء والغلاء والعناء وطار بنا في عالم الفرح والبهجة والسرور والهناء، ولكنها مريحة ومزعجة في نفس الوقت، مريحة لأمها من كل أشغال البيت وحتى المطبخ وتقول هي “Master chef kids”، ومزعجة لي لأن لديها صعوبات حقيقية في الدراسة وكأنها توحدية، نعم أخشاها كذلك لأن العبقرية والغباء ربما لا يجتمعان إلا عند هؤلاء، “مع هذا التعليم عن بعد إوى فكها يا من وحلتها”، في كل مرة أحاول مساعدتها لكنها تفجر رأسي، تتكل علي في كل شيء وكأني علمي وأدبي وتقني.. وبلا فائدة “بزاف”، تصوروا أن ابنتي “سارة” تصرف فعل aller à Marrakech ب je vais à Marrakech..tu va à Tarrakech..il va à Sarrakech..، حتى سماها التلاميذ في مؤسستها Sarrakech.
وهنا تدخل زميلهم الأخير وهو يوجه كلامه إلى زميله فقال:”حلك بسيط يا أخي..علم ابنتك مثلي مهارة التعلم الذاتي، تقنية البحث عن المعلومات، منهج التفكير الإبداعي..، فتريح وترتاح”لا تعطيها سمكة بل علمها كيف تصطاد، ولكن احمدوا الله على أبنائكم وعلى أذواقهم و مواهبهم، حتى “Sarrakech” ،نعم، راه مائة “Sarrakech ” و “Sarrakech ” ولا موهبة ابني “أيوب”،لا تستغربوا ولا تستعجلوا سأحكي لكم عنها وترون، ابني يا سادة، مراهق يافع، كان دائم العناد لجل ما يصدر منا، وكنا نغض الطرف عن ذلك ونحسبه عناد المراهقة التي تفرض رأيها وتتصرف في الغالب بعكس ما يطلب منها، لا يفارق العبث في هاتفه، ولا يخرج من غرفته، ولا يهدأ عن إخوته، ولا يتسخر لبيته كأنه ليس عضوا فيه ولا ينتمي إليه ولا..ولا..، قال له صاحبه:”بكلمة واحدة لا يسمع الكلام”. استأنف الأب يقول:” تماما،لا يسمع الكلام، وله كل الحقوق وليست عليه أية واجبات، وفي أيام الحجر الصحي هذه، سبحان مبدل الأحوال، تبدل فيه كل شيء تقريبا، ورأسا على عقب، وبالشكل الإيجابي كما كنا نحسب، أصبح اليافع رجلا مسؤولا، خدوما، مقداما، مصوابا، وأقسم علينا يمينا ألا يترك أحدا غيره يخرج خارج المنزل ولأي غرض كان، وأنه هو سيتكلف بكل شيء، قلنا له إنا نخاف عليك من الوباء أو أي مكروه، قال بكل رجولة:”اللهم أنا ولا أنتم”.
صدقناه وتركناه وقلنا له:”الله يرضي عليك”، لك ذلك شريطة أن نعقمك عند كل عودة لك من الخارج، وافق وعلى الطريقة الصينية كنا نكب عليه دلاء من الماء والصابون تعقيما وترفيها في نفس الوقت، ودلو وراء دلو حتى “دعقته” عاشوراء الدلاء. وفي آخر مرة نكص وعاد إلى غرفته يعتكف فيها على عادته الأولى ولم يعد يريد الخروج ولا السخرة ولا حتى رؤية أحد منا، دخل في اكتئاب وما أن يكلمه أحد منا حتى يرتفع صراخه ويشتد توتره وخصامه لكل من يكلمه حتى الكبار منا، حاولت أمه تفقد أمره على انفراد في غرفته فصرخ في وجهها..لاشيء، كنت تكلفت لكم بكل شيء والآن بلا شيء..عادي..، لاحظت أمه نافذة الغرفة مفتوحة على غير العادة، ولاحظت كثرة صعوده إلى السطح، سعاله ببحة صوت خشنة بين الحين والحين، تراخيه في ممارسة الرياضة، ولاحظت ولاحظت..، وعندما استفسرته قال لها.. كل شيء عادي، استغربت الأم ولم تصدق فقالت لا..لا..هناك شيء غير عادي، خرجت من الغرفة لتخبر أباه عن غرابة أطوار ابنهما منتظرة منه فعل شيء، فقال لها هو أيضا وهو يفجر في وجهها حنقه..عادي..عادي..كل شيء في هذا المنزل عادي، لكن أن أجد نقودا قد نقصت من محفظتي بين الأمس واليوم فهذا غير عادي، وكأن الزوجة تستغرب من تلميح زوجها واتهامه، فقال لها،لا تستغربي فقد تركت بالأمس ورقة من فئة 100 درهم في محفظتي، أنا متأكد من ذلك، واليوم لم أجدها، أنا أيضا متأكد من ذلك”.
كنت في البهو أتابع نشرة الأخبار عبر التلفاز، وإذا بالمذيع في حوار تلفزي حول الحجر الصحي والتدخين يقول:”هناك بعض المدخنين الشباب يخرقون الحجر الصحي – الله يهديهم – لا لشيء إلا لأنهم يخرجون ولو إلى باب المنزل ونواحيه ليدخنوا، ويفعلون هذا كل يوم وكل ساعة وبأي عذر من الأعذار، رجاء لا تتركوهم يخرجون، فهذا خرق وخطر عليهم وعلى أفراد الأسرة، أدخلوهم إلى غرفة في المنزل و افتحوا لهم النافذة، و”يقضيوا الغرض”. انتبهت إلى الكلام فقلت لزوجتي:”ماذا قلت يا امرأة، نافذة غرفة ابننا مفتوحة، قالت نعم، ورائحتها كريهة، قالت نعم، يصعد إلى السطح مرارا، قالت نعم، وقد خرج بالأمس خمس مرات..واليوم كذلك، قالت نعم، وهنا هرعت في التو إلى غرفة الولد وفتحها عليه بسرعة وفي غفلة لأجد في فمه نثرة سيجارة حبسها في فمه بدخولي المفاجئ، ما سبب له حرق ونوبة سعال زفر فيها بعض الدخان وافتضح كل شيء. فوجئت وفي هنيهة دارت في رأسي كل السيناريوهات ولكن تمالكت نفسي وحملقت فيه وما زدت عليها إلا أن قلت..عادي..كل شيء عادي..الآن فهمنا كل هذه الطيبوبة والتضحية والإقدام التي ظهرت عليك في هذه الجائحة يا… ، كنت تخرج وتتعذر الخروج لتفعل فعلتك وتقابل حبيبتك المسمومة في خفية منا، عادي فكل السجائر مشانق تلف حبالها القاتلة على أعناق ضحاياها، كل السجائر مومسات تستعبد عبيدها ومدمنيها البلهاء، عادي..عادي..غير العادي أن أتركك وشأنك أو أتحدث معك في الموضوع..وانصرفت”.
تداول الآباء في أمر صاحبهم وكيف يمكنه علاجه بحكمة وحزم وروية حتى لا يصبح مثله مثل “كورونا”فتكا وعدوى ومآسي، أو يفجر بيته العامر وهو الذي يحميه منها، نصحوا له بأن يتمالك أعصابه، وأن يبتعد عن التوتر والتعنيف والانتقاص والتخوين، والطرد من المنزل وكل ما لا يزيد الطين إلا بلة، وذكروه بأن تدخين الأطفال والشباب له أسباب، كالتفكك الأسري، والدلال التربوي، النقص العاطفي والخرص البيتي، المشاكل الدراسية وفقدان الثقة، ورفقاء السوء وغياب القدوة، ووفرة المال والفراغ، الرغبة في الاستقلالية والتعبير عن الرجولة والأنوثة المتحررة، التصورات الوهمية عن التدخين، وبالأخص وبالأخص الجهل بالأمراض والعواقب الصحية والاجتماعية بالأرقام والإحصائيات(10 ملايين قتيل سنويا بسبب أمراض التدخين التي تمس كل أعضاء الإنسان)، السلوك المجتمعي الشائع والغواية الإعلامية السائدة، ضعف الوازع الديني والتشريع القانوني… ، فانظر بما أصبت أيها المدخن ابنه وانظر كيف تعالجه بشكل مناسب، استوعب الأب نصائح زملائه فعاد إلى ابنه في جلسة مغلقة بينهما يقول له، رغم أن التدخين باب كل الانحرافات وطريق كل الموبقات، فأنا سأتركك تستمر فيما أقدمت عليه، شريطة أن تعرف أنك ابني الطيب والذي أحبه وسأظل أحبه على كل حال، وإن أخبرتني بالصراحة المعهودة بيننا بحكايتك وأطوارها ساعدتك ما أمكن فأنا والدك، وإن أبيت فسأتركك وما اخترته شريطة ألا تسرق ولا تكذب ولا تتسول أو تتغول أو يبرمج فيك المبرمجون، وشرط آخر، كلما اشتريت علبة سجائر تشتري لي أنا أيضا ولكل أفراد الأسرة علبا مثلها، لتحتفي أسرتنا المحترمة بهذه الشجرة الخبيثة السامة الملعونة، وأخيرا، ألا تضع في فمك سيجارة أبدا حتى تقابل لي أقدم مدخن في المدينة وتأتيني بتقرير صحي واجتماعي واقتصادي ومزاجي مفصل عنه يرويه لك بحاله قبل لسانه، فما كان من الولد الطارق إلى الأرض إلا أن تنهد وذرفت عيناه وأخرج من درج في غرفته مخزونه من السجائر للحجر الصحي، عشر علب كاملة ليضعها بين يدي والده معتذرا ومقبلا يده ورأسه..طالبا من العفو والصفح.
نعم، في بيتنا مدخن ماذا أعددنا له خلال هذا الحجر الصحي وما بعده، هل نقنعه بالإقلاع عنه أم يصوم عنه نهار رمضان ويفطر ويسهر عليه ليله، في بيتنا بطالي توقف عن العمل وتعسرت أموره والمستقبل عنده كالح والأفق مسدود، كيف لنا بمساعدته والتضامن معه إبقاء له على بصيص من الأمل؟ في بيتنا عانس “سعدها” متعثر تحسب كل صيحة عليها، كيف نحسسها بذاتها حتى تفتق مواهبها وتشغل تفكيرها و تملأ وقتها وكلها إيمان بالقسمة والنصيب ورجاء في خيرية القضاء؟ في بيتنا كهل مسن خانته الصحة وهجره الأبناء وداهمته الوحدة والخوف والمرض، كيف لنا بتحمله وخدمته وإبعاده عن دار المسنين وهو من يعتبر كنز البيت المجهول وثراؤه المهمول؟ في بيتنا متحرش(ة) مفتون(ة) لا يلهث في الهواتف والمواقع إلا على فيديوهات الثرثرة والإثارة وخبث التحرش والدعارة، أين هو من غبن الجدة والصحة والفراغ وثقافة تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها؟ في بيتنا ذو احتياجات خاصة وطالب علم ومتربص هجرة ومدمن مقهى ورائد ملهى.. وفي بيتنا.. وفي بيتنا، فما رصيد بيتنا من سعة الصدر والكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة والعطف الأبوي والحب الأخوي، من الزاد التربوي والدفء الأسري والصبر الاختياري، حتى يستعيد دوره المجتمعي التاريخي في الحضن والرعاية والحماية والخدمات، ويكون بيت السكن والسكينة والمودة والرحمة والأمن والطمأنينة والاستيعاب للجميع رغم ما قد يكون بينهم من الخلاف والاختلاف، لقد حجرت علينا “كورونا” في المدارس وفي المعامل وفي المساجد..، حجرت علينا في الخارج ولم يبقى لنا غير بيوتنا في الداخل، فنرجو ألا تحجر علينا في الداخل كما في الخارج..صادقين نرجو ذلك.