اغتنام ما بقي من رمضان
أيها المومنون، إنكم في شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، لقد انقضى من رمضان صدره، ومضى منه شطره فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم قبل ان يغلق الباب، واشكروا الله على أن أخّركم إليه واجتهدوا في الطاعة فيه قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فالضيف يوشك أن يرتحل، فأحسنوا فيما بقي، عسى يُغفر لكم ما مضى، فإنكم إن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، مر أكثر من نصف الشهر وانصرم، وفاز بحبل الله من كان به معتصما، وخاف من زلّة القدم، وشقي الغافل العاصي وياويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يقول الله في الحديث القدسي: “يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه” [أخرجه مسلم]
أيها المسلمون، إن إخوانا لنا وأخوات كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها، بل أين بعض من صاموا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! ألم يأتهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا إلى بطون الحفر، ونحن – يا عباد الله – لا شك على الأثر، أفلا نتأهب لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، ونتذكر مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر، ولكن صدق الله إذ يقول:(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) عباد الله، لا دافع عنا من الموت يقينا، فلنتب قبل أن نندم إذا غصّت تراقينا، فيا من فرّط في شهر رمضان القائم، هل أنت على يقين من العيش إلى رمضان القادم؟! فقم بحق شهرك، واتق الله في سرِّك وجهرك، واعلم أن عليك ملكين يصحبانك طول دهرك، ويكتبان كل أعمالك، فإياك أن تُهتك أستارُك عند من لا تخفى عليه أسرارُك
أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فاحبسوا جوارحكم عن فضول الكلام و السمع والنظر؟! وكفوها عن اللهو والأشر؟! يقول سيد الأنام عليه الصلاة و السلام : (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه)) ويقول : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) يعني ليس له ثواب إلا التعب، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء ).
فيا أخي المؤمن، إياك أن يجدّ إخوتك المؤمنون وأنت قاعد، ويتقربوا وأنت متباعد، ويقوموا وأنت راقد، ويتذكروا وأنت شارد، فهل ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، فيا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، فاستدرك من رمضان ما بقي، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فريضة ونافلة، فقد قال رسول الله : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال :(إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة).
أيها المؤمنون، لقد كان السلف الكرام عليهم من الله الرضوان يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، وفي آخر عام من حياة سيد الأنام عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام.
أيها الصائمون : هذا كتاب الله يُتلى بين أظهركم ويسمع، لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدّع، فخذوا بكتاب الله بقوة، ولا تشغلنكم الدنيا عن أداء المفروض، فإنها لا تساوي عند الله جناح البعوض، شهر رمضان شهر العتق من النيران، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة) يعني في رمضان. فلنجتهد – يا عباد الله – ما استطعنا في إعتاق رقابنا، وشراء أنفسنا من الله جل جلاله.
ذ. سعيد منقار بنيس