استشعار معية الله والطمأنينة إليه
إن القرآن الكريم شفاء من كل داء، شفاء فعلي عملي، كما قال سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”، وأكثر ما تكون الأمراض في هذا العصر هي الأمراض النفسية، وأكثرها أمراض الاكتئاب الناتجة عن كثرة الهموم والأحزان، فتثقل النفس، وتوهن القلب وتقعد الجوارح، فلا يزال المرض بالمؤمن حتى يصير عاجزا كسلانا، مهمومًا، محزونًا، لا يقدم شيئا إيجابيا لنفسه ولا لأسرته ولا لأمته. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمراض، وكان كثيرا ما يستعيذ منها، كما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اني اعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل، واعوذ بك من الجبن والبخل، واعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). إنها استعاذة الداعي إلى السلوك الإيجابي نحو النفس والمجتمع، واستعاذة المستنكر لحالة القعود السلبية التي ربما يقع فيها البعض نتيجة همومهم وأحزانهم.
إن علاج القرآن في النفوس يثبت في الأساس العقيدة الإيمانية في نفوس المؤمنين، ويؤكد على فهم المؤمنين لعقيدتهم في الله سبحانه، وفي موعوده واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وذلك ببث الطمأنينة في القلب “أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”، وبالسكينة وسط المخاوف فكتاب الله سبحانه يبث السكينة في النفس، ولئن كانت الطمأنينة تخص ذات القلب، فالسكينة تخص الحوادث المارة على النفس، فعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا مرت بنا مصيبة أن نذكر الله ونتوكل عليه، فقال: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: قدر الله وما شاء فعل، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها، إلا أجره الله فيها وأخلفه خيرًا منها)، ثم بالثقة في الله سبحانه يقوى به القلب ويثبت به النفس، والله سبحانه وتعالى في كتابه يقول: “قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ”.
ولأجل ذلك يعلمنا القرآن الكريم الأخذ بالأسباب، لا على تواكل أو على قعود، أو انطواء، لكنها مبنية بالأساس على الثقة بالله كما أسلفنا وكذلك بعد الأخذ بالأسباب التي أمر الله بها. “وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” .
إن إحساس المؤمن بحفظ الله له، ويقينه أن الله معه؛ يسمعه إذا شكا، ويجيبه إذا دعا، ويأخذ بيده إذا كبا، ويمده إذا ضعف، ويعينه إذا احتاج، ويلطف به إذا خاف، كل ذلك من أسباب ارتياح النفس وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب وتيسير الأمر، وطيب العاقبة في العاجل والآجل؛ فإن ثقة العبد بربه ويقينه بأنه – سبحانه – المتولي لأموره، وأنه – تعالى – سائق كل خير، وكاشف كل ضر – لا تتركه نهبا للوساوس والأوهام، ولا تلقيه في بيداء اليأس من روح الله، أو ظلمة القنوط من رحمة الله؛ بل تجعله يضرع إلى الله تعالى عند كل نازلة، ويستجير به عند كل مصيبة، ويشكره ويذكره، ويحمده عند كل نعمة ورحمة، فيتجه إلى الله في سائر أحواله، داعيا متضرعا موقنا بالإِجابة، منتظرا للفرج من الله، لا يتجه إلى غيره، ولا يُنزل حاجتَه بسواه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾، فيتذكر ربه في كل أحواله ذاكرا وشاكرا على السراء، وصابرا ضارعا منتظرا للفرج عند الضراء، ويسأل الله أن يجود عليه بحفظ النعماء، والعافية من البلاء، واللطف في القضاء.
وكم في الصبر على المكاره من جميل العواقب، وكريم العوائد، التي أعظمها تجريد التوحيد بالإخلاص لله وحده، وصرف القلوب عن التعلق بالعبد، ومنها زيادة الهدى والإيمان، وعظم الأجر في الميزان، وتكفير الخطايا، ورفعة الدرجات، ومضاعفة الحسنات: ” وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ “، “قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ “.
ومن عدة المؤمن في سيره إلى ربه التوكل على الله؛ الذي حقيقته الاعتماد على الله في حصول ما ينفع العبدَ في دينه ودنياه، ودفع ما يضره، مع تفويض الأمر إليه تعالى، وانجذاب القلب إليه محبة له، وثقة به، واعتمادا عليه، وتكميل ذلك بمباشرة ما شرعه الله تعالى من أسباب توصل إلى المقاصد، وتحمد بها العوائد، فإن التوكل للمؤمن من خير الخصال، وجليل الأعمال: ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ “.
الإصلاح