ارتقِ في رمضان وبعد رمضان
جعل الله تعالى شهر رمضان المبارك لنرتقي فيه، ونرتقي به، فأما الارتقاء فيه، فلأن في الشهر الكريم ما لا يحصى من الفضائل والمغانم الدنيوية والأخروية.. ففيه من فرص الترقي وأسبابه، ومن الأجواء المساعدة عليه، ما لا يتاح مثله على مدار السنة كلها وبمجموعها. فمن هنا يأتي الترقي في رمضان.
وأما الارتقاء به، فمعناه أن الارتقاء الذي يحصل في رمضان، تستمر آثاره وبركاته بعد رمضان، إلا إذا كان ذلك مجردَ تظاهر زائف، أو مجرد تدين سطحي.
وفي مثل هذا التدين جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع. ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر)، وفي الحديث أيضا: (صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. فلما نزل سئل عن ذلك فقال: أتاني جبريل فقال: رغِمَ أنفُ من أدرك رمضانَ فلم يغفر له، قل آمين، قلت آمين. ورَغِمَ أنفُ رجل ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، قل آمين، فقلت آمين. ورَغِمَ أنفُ رجل أدرك والديه أو أحدَهما فلم يغفر له، أو لا يدخلانه الجنة آمين، قلت آمين).
وهذه الرسالة الرمضانية المختصرة، تتناول جانبا واحدا من حياتنا وسلوكنا، وكيف نُرقيه في شهر رمضان، وهو جانب الإنفاق والاستهلاك. وهذا لا يعني أن مضمون هذه الرسالة خاص برمضان، بل هو لكل وقت وحين، فليس في رمضان عمل ينحصر فيه ويختص به، إلا صيام الشهر كاملا، ولكن شهر رمضان يُضْفي على الفضائل والطاعات مزيدَ فضل وثواب، ويضفي على الرذائل والمعاصي مزيدَ قبح وإثم. ولذلك في رمضان ينبغي أن يكون حرصنا على فعل الخيرات واجتناب المنكرات أشد مما نفعل في غيره.
يُراد بالاستهلاك: استعمال الأشياء والمواد المتاحة استعمالا يتضمن هلاكها وانقضاءها، أو يؤدي إليه، سواء بشكل فوري ومباشر، كالمأكولات والمشروبات ومواد التنظيف، أو بشكل متدرج متراخٍ، كالألبسة والأقلام والآلات وعامةِ الوسائل التي تستعمل مرات عديدة، ولفترات ممتدة، تطول أو تقصر. غير أن الاستهلاك المربوط برمضان يُقصد به عادة استهلاكُ المواد الغذائية على الخصوص. وهذا ما أعنيه الآن.
من المفارقات الغريبة التي تشتهر عن هذا الشهر الكريم أن الاستهلاك الغذائي يرتفع فيه، مع أنه شهر صيام. وهذا -إذا ثبت- يعني أن الناس عموما يأكلون ويشربون في رمضان أكثر مما يفعلون في غير رمضان. وقد يكون جزءٌ من المواد الغذائية المستهلكة ليس مما يؤكل ويشرب فعلا، وإنما يهدر ويذهب سدى مع ما يرمى من القمامة، وهذا مؤسف وسيئ للغاية. وفي جميع الحالات، فإن زيادة الأكل والشرب، أو زيادة الاستهلاك للمواد الغذائية، يعتبر خروجا عن مقاصد الصيام ومعاكسة لها.
فالصيام – كما هو واضح للعيان- أول معانيه وأبرز مقتضياته ومقاصده تقليل الأكل والشرب وكبح شهوات البطن. قال الفقيه المالكي ابن راشد القفصي “حكمة مشروعيته: كسر النفس عن الشهوات، والتشبه بسكان السماوات، وتصفية مرآة العقل”.
وأكثر الشهوات التي تشغل الناس وتستبد بهم هي شهوةُ الطعام والشراب، وأكثر عناء الناس ومعاناتهم إنما يكونان بسبب الأكل والشرب وما لهما من متطلبات، وما لهما من آثار ومخلفات. فجُعل الصيام بالدرجة الأولى فرصة لكبح هذه الشهوة وتعديلها وترشيدها.
ولكن بعض الصائمين لا يفعلون وقت صومهم سوى استجماع شهوة الأكل والشرب وتحفيزها وشحذها بالمشتريات والإعدادات، ثم إرسالها وإشباعها بما لذ وطاب طيلة وقت الإفطار. فمن هنا يصبح استهلاكهم في رمضان أكبر حجما وأغلى كلفة مما هو في غير رمضان. وهذا إفساد وتشويه لمقاصد الشرع وحقائقه.
وفضلا عن ذلك، فإن الإفراط في الأكل والشرب كما وكيفا، يُدخل صاحبه ويأخذه في طريق الإسراف والتبذير، وذلك بقدر ما يُكَــثِّـر من أنواعه ومقاديره والزيادةِ فيه على ما ينفع. ثم يبلغ أسوأ درجات الإسراف والتبذير بتركه يَفسُد ويُرمى به.
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تَنهَى عن الإسراف وتحذر منه بصفة عامة، ثم ورد النهي خاصة عن الإسراف في الأكل والشرب. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31[
وفي كتاب اللباس من صحيح البخاري: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مَـخِيلة. وقال ابن عباس: كلْ ما شئت والبسْ ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سَرَف أو مَخيلة”.
وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثُلثٌ لطعامه وثلثٌ لنفَسه). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال الشيخ الألباني: صحيح. وروي أيضا: “إن من السَّرَفِ أن تأكل كل ما اشتهيت”.
فالإسراف في الأكل والشرب ضرر محقق على الصحة والسلامة البدنية، ثم هو ينمي الشَّرَهَ وسوءَ الخلق. ففي اجتنابه صحة بدنية وخُلقية. وقد قال بعض السلف: إن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}جمعَ الطب كله؛ وذلك أن السبب الأول للصحة يكمن في التغذية أكلا وشربا، والسبب الأول للأمراض والعلل يكمن في الإسراف في الأكل والشرب. والآية أمرت بالأول، ونهت عن الثاني.
ثم إن الإسراف والتبذير عموما فيهما ما لا يخفى من إتلافٍ وتضييع للنِّعَم والأموال. ومعلوم أن كل واحد سيُسأل أمام الله سبحانه عن النِّعَم التي وصلت إليه، وكيف تصرف فيها وما ذا عمل بها. قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر].
ومما هو جدير بالانتباه والتدبر أن القرآن الكريم يربط بين الإنفاق على المحتاجين وأداء حقوقهم من جهة، والنهيِ عن الإسراف والتبذير من جهة أخرى، مما يشير إلى أن الإسراف والتبذير إنما يقعان على حساب الإنفاق الواجب، وعلى حساب المحتاجين المستحقين للعطاء، وأن التبذير والإسراف من أسباب تضييع حقوق المساكين والمحتاجين.
قال الله جل جلاله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]. فالمعادلة هي: آتوا ذوي الحقوق حقوقهم، ولا تضيعوها بالتبذير.
وفي قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأنعام: 141]، نجد قولين للمفسرين في فحوى الإسراف المنهي عنه في هذه الآية. فمنهم من قال: إنه معطوف على (وَآتُوا حَقَّهُ)، بمعنى آتوا حقه دون إسراف في ذلك. ومنهم من قال: إنه معطوف على (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ)، بمعنى لا تسرفوا في الأكل والاستهلاك، حفظا لحق أصحاب الحق معكم فيه. وهذا المعنى الأخير مطابق لما تضمنته الآية السابقة “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا”.
وهو الذي ذهب إليه العلامة ابن عاشور، وخطَّأ الرأي الأول، فقال: “(ولا تسرفوا): عطف على (كلوا)، أي: كلوا غير مسرفين. والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مَذَمَّاتٍ كثيرة، وينتقل من ملذة إلى ملذة، فلا يقف عند حد. وقيل: عطفٌ على (وآتوا حقه)، أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه، فأما بذله في الخير ونفعِ الناس فليس من السرف، ولذلك يُعَدُّ من خطأ التفسير: تفسيرها بالنهي عن الإسراف في الصدقة”.
وقد أطال العلامة عبد الكريم يونس الخطيب في نصرة هذا الرأي وترجيحه… إلى أن قال: “وعلى هذا، فإن الفهم الذي نستريح إليه لقوله تعالى: “وَلا تُسْرِفُوا” هو أنه قيدٌ وارد على قوله سبحانه: “كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ” .. أي كلوا من ثمره في غير إسراف، حتى يكون في أيديكم فُضلة تؤدون فيها حق الله في هذا الثمر الذي تَطعمون منه، وحتى لا تمتلىء البطون، وتبلغ حدّ التخمة، فلا يذكر المرءُ حينئذ شهوة جائع إلى هذا الثمر”.
الدكتور أحمد الريسوني