د عبد الله الفاسي يكتب: احتجاجات “جيل زد” بين الفراغ الثقافي واستعصاء المقاربة الأمنية

يعيش البلد منذ أسابيع على وقع احتجاجات شبابية واسعة النطاق، تقودها فئة عمرية جديدة أطلق عليها البعض “جيل زد” (GENZ212). . احتجاجات متفرّقة في جغرافيتها، لكنها متوحّدة في شعاراتها: عدالة، كرامة، حرية، مساواة….؛ شعارات كلّها فطرية تُقرّها كل المرجعيات الدينية والإنسانية، وهي حركة لا تحمل –للوهلة الأولى– نزعة انقلابية أو نزوعاً للعنف؛ بل تؤكد في بياناتها وحواراتها على السلمية والاحترام للقانون.
غير أن ردّ الدولة لم يخرج عن التقليد المعروف: مقاربة أمنية مكثفة، واعتقالات، واتهامات جاهزة بارتباط المحتجين بأجندات خارجية. وهو ما يعيدنا إلى الحلقة المفرغة التي طبعَت علاقة الشباب المغربي بالدولة منذ عقود: غياب قنوات التعبير المؤسسي، وغياب وسيط ثقافي وسياسي حقيقي، يقابله حضور مفرط للهاجس الأمني.
الفراغ الثقافي أصل الداء؛ الفراغ في ثقافة الدّولة قبل ثقافة الشّباب.
لا يمكن فصل ما يجري عن الأزمة الثقافية البنيوية التي تعيشها البلاد. فخلال سنوات تمّ تجفيف منابع الثقافة الجادّة؛ لفائدة مهرجانات استهلاكية صاخبة، جعلت من “طوطو” العنوان الأبرز للاختيار الثّقافي الرّسمي. إذ اختارت الدولة أن تُقنع نفسها بأن الشباب (كلّ الشّباب) سيكتفون بالتنفيس عبر سهرات وموازين وأغانٍ سطحية، بينما الواقع يثبت العكس.
فالشباب الذين يصنعون الحدث اليوم هم أبناء فضاءات أخرى: فضاءات الجامعات ومدرجات الملاعب و”تيفويات” الالتراس، وغرف الدردشة على “ديسكورد”…. هناك؛ تشكّل وعي جمعي بديل، رفع شعارات أعمق وأصدق بكثير من نصوص الأغاني المكرورة. وحين غابت دُور الشباب، والمراكز الثقافية، والمسارح الجامعية؛ صنع الشباب فضاءهم الرقمي الخاص، وأعادوا إنتاج “زمن الرفاق” لكن بأدوات رقمية.
الدولة في مواجهة “المفاجأة”
كما كتب عصام واعيس، الدولة لا تقبل أن تُفاجأ مرتين. بعد 2011 وحراك الريف 2017، جاء الجواب هذه المرة مباشراً: الضرب على يد كل محاولة للتنظيم الذاتي. المنطق الرسمي بسيط: لا شيء اسمه احتجاجات عفوية، ومن يقف وراءها يجب أن يُكشف ويُحاسب. لكن المفارقة أن غياب “القيادة المكشوفة” لا يعني غياب المطالب ولا الشرعية؛ بل يزيد من ثقة الشباب بعضهم في بعض، ويجعل الحركة أفقية، متشعبة، عصية على الاستهداف الفردي.
في المقابل، السلطة لا ترى في المطالب التقنية (التعليم والصحة) سوى واجهة. فحين يتجمع عشرات الآلاف في الشارع، ولو حول مطلب محدود، يظل شبح “التغيير السياسي” ماثلاً في خلفية ذهنها. لذلك تفضّل وأد الجنين قبل أن يكبر.
من السياسة إلى الثقافة: الرؤية البديلة
لا يمكن مقاربة هذا الحراك فقط كحدث سياسي أو اجتماعي. إننا أمام مؤشر على عمق الفراغ الثقافي الذي ترك الشباب عرضة للخيبة والتيه. والحل لا يكون بالمزيد من الأمن، ولا بترقيع وزارات الصحة والتعليم بتغييرات شكلية، بل بإحياء الحياة الثقافية الجادّة أوّلا، والتحرير الواعي لفضاءات النقاش، وبناء ثقة جديدة بين الشباب والدولة عبر مؤسسات وسيطة حقيقية مستقلة ومسؤولة.
لقد أثبت التاريخ القريب أن إغلاق منافذ التعبير لا يؤدي إلا إلى الانفجار. وأن الاستثمار في الثقافة والفكر والحوار هو السبيل الوحيد لإطفاء جذوة الاحتجاج قبل أن تتحول إلى حرائق. فشباب اليوم ليسوا نسخة من شباب الأمس: هم متعلمون، متشبعون بالخطاب الحقوقي الكوني، متواصلون عبر شبكات رقمية لا تحدّها جغرافيا. وتجاهلهم أو شيطنتهم؛ لن يزيدهم إلا صلابة.
وفي الختم
إن احتجاجات “جيل زد” لا يجب التّعامل معها على أنّها -بالضّرورة- شبح خارجي ولا مؤامرة مدبّرة؛ لأنّها في واقع الأمر؛ ابنة شرعية لأزمة داخلية عميقة: أزمة ثقافة، أزمة ثقة، وأزمة وسيط سياسي. وإن كان من درس يجب أن يُستخلص اليوم، فهو أن الأمن وحده لا يصنع الاستقرار، وأن الشباب الذين يرفعون شعارات العدالة والكرامة لا يبحثون عن الفوضى، بل عن معنى لحياتهم في وطنهم.
وعين الصّواب اليوم؛ إطلاق سراح المعتقلين الشباب، وإرساء مقاربة جديدة تنطلق من الثقافة والفكر والتربية على الحوار؛ لا من القمع والتخويف. فجيل اليوم قد يختلف في وسائله وأدواته، لكنه في الجوهر امتداد للأجيال التي طالما نادت بوطن حر كريم، وطن يتسع للجميع.