إنه كتاب إعمار ورحمة – الزهرة الكرش
خلق الله الإنسان ليكون إضافة نوعية لهذه الحياة لا ليكون زائدا عليها، تمتد سواعده إلى جانب ملايين الأيادي للإسهام في الإعمار باعتباره وظيفة أساسية من الوظائف التي أوجده الله من أجلها، قال تعالى:(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]
الإعمار: من أعمر الشDX أي جعله آهلا وعمارة الأرض أي إحياؤها بالبناء أو الغرس أو الزرع وبهذا يكون الإعمار إعادة بعث للحياة من جديد. الإعمار ضخ لدماء جديدة في شرايين أمة بعد مواتها لتُبْعث من جديد بأنفاس جديدة يَحيى بها الأمل وتُستنهض بها العزائم وتُشحذ بها الهمم لصعود سلم الترقي.
الإعمار ليس عمرانا فقط لأن الحضارات لا تبنى على المنجزات المادية وحدها بل جوهرها هو الباني نفسه أي الانسان الذي إن امتلك المقومات النفسية والفكرية والإيمانية حوَّل المستحيلات إلى ممكنات. إن الانسان المنهزم نفسيا وإيمانيا لا يبني حضارة ولا يحدث نهضة حتى وإن حِيزت له الدنيا كلها وعلى العكس من ذلك إن اشتعلت جذوة الايمان في قلبه وانبعثت روح التغيير فيه استطاع بوسائل بسيطة تحقيق إنجازات رائدة. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته برغم إمكاناتهم المتواضعة استطاعوا بناء حضارة دوَّى صيتها في كل الأرجاء وأحدثت من التغيير الفكري والواقعي ما أحدث زلزالا في موازين النهوض والسقوط وما جعل أعتى حضارات ذاك الزمان تعيد حساباتها.
إن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قبل أن يعتمد على المعطيات المادية للبناء ركز على بناء الإنسان الذي هو القاعدة الأساس التي بدونها لن يقوم لأي حضارة قائمة، فكان النتاج مسلم حضاري أخلاقي، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم 🙁 إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)[رواه أحمد]، فالأخلاق أساس الإعمار الإنساني وأساس القيم الإنسانية.
الأخلاق مقصد كبير من مقاصد الشريعة الإسلامية قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا، أحسنهم خلقا)[صحيح الجامع للألباني]. فإيمان المؤمن لا يكتمل حتى وإن أقام أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصوم…ما لم يصاحبها حسن خلق. فكل العبادات تبقى ناقصة إن لم يتحقق المقصد من فرضها ووجوب أدائها وهو أن تتحول من مجرد حركات ومظاهر إلى تجسيد عملي يتمظهر في سلوك المؤمن وتعامله.
وهذا ما تميزت به المدرسة المحمدية فأنتجت جيلا تفرّد بسمو أخلاقه فتفرّد في أدائه وتفرد في مصداقيته وتفرد في تجربته. إن دار الارقم بن أبي الارقم ركزت على إعمار النفوس بالقرآن وبناء إيمانها بتدبر آياته وإعلاء هممها بالثقة في أن كلماته هي وحي رباني ما نزل إلا ليصبح تجسيدا عمليا ملموسا على أرض الواقع فكان بذلك الانسان الأرقمي نموذجا أصبح أقرب ما يكون إلى المثالية أو ربما اعتبره الكثير من الناس أسطورة لا يمكن تكرارها. لقد كان نتاجا متفردا تحول من جاهلية مُسْتفحلة في العصبية والقبلية والتناحر وغارقة في الملذات إلى قامات تسعى إلى نشر نور الهداية بكل مكان وتتطلع الى بناء حضارة راقية بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، رقي على المستوى الفردي وعلى المستوى المجتمعي، رقي عبقه فاح في كل الأرجاء فغير النفوس قبل أن يغير خريطة العالم. إن مخرجات المدرسة المحمدية قامات عملت واجتهدت في إعمار الأرض بمكارم الأخلاق فكان العمران المادي نتيجة حتمية لا تحتاج إلى ذكر لذلك نجد أن الكثير من كتب السير ركزّت على أخلاق الصحابة وحنكتهم الحربية ولم تستفض في ذكر منجزاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية وغيرها.
إن جيل الصحابة الفريد غيروا العالم وأعمروه لأنهم فهموا القرآن وعملوا بما جاء به في حين أن الكثير من أبناء المسلمين اليوم ملأ كتاب الله صدورهم ولكنه لم يتملك قلوبهم ولم يرق بإيمانهم لأنهم لم يسيروا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في التعامل مع كلام الله وآي القرآن الكريم. يقول عز وجل في سورة محمد { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} الدعوة واضحة صريحة لفهم التنزيل وتدبر ما جاء فيه والحرص على العمل به، هي دعوة للفهم وليس للحفظ. لا ننكر أن حفظ كتاب الله فخر كل مسلم وأمنية كل مؤمن لكنه حفظ ناقص و بلا معنى إن لم يصاحبه فهم وتدبر وارتقاء. إنه كتاب بناء وليس كتابا للتفاخر بكٓمِّ المحفوظ منه أو لتزيين رفوف البيوت والتبرك بوجوده إلى جوار الأسِرّة. إنه منظومة متكاملة للإعمار أساسها حسن الخلق ونموذجها المثالي محمد بن عبد الله الذي وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنه كان قرآنا يمشي لأن كتاب الله سبحانه وكلامه هو منهج للتنزيل وكلمات نتعبد بها الله قولا وترتيلا وتدبرا وعملا.
إن الاعمار الحقيقي هو الوعي الكامل بأن القرآن الكريم كتاب يبدأ بإعمار النفوس وإحياء أنفاس التوحيد داخلها لتنطلق الى إعمار حضاري واعٕ يهتم برقي الإنسان ليكون كما كان خير البشر رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] رحمة عطاء وبناء وعمل وبذلِ وُسع لإعمار هذه الأرض سيرا على نهج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.