إنحرها إياها – خديجة رابعة
روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أهدي عمر رضي الله عنه نجيبا، فأعطي بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها و أشتري بثمنها بدنا؟ قال: “لا انحرها إياها”.
طبعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يضِنُّ بثمن هذه الناقة النجيب، ولكنه كان يود شراء نوق وبقر بثمنها، قد تكون من ناحية كمية اللحوم أكثر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها وعظم قيمتها.
فالمقصد ليس كثرة اللحوم ف “لن ينال الله لحومها و لا دماؤها” ولكن المقصد هو القيمة المعنوية، والأثر على مستوى الشعور لهذا الهدي النفيس ” و لكن يناله التقوى منكم”.
أورد الشهيد سيد قطب رحمه الله هذا الحديث في ظلاله في سياق تفسير الآية 32 من سورة الحج. قال تعالى:”ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، وفسر تعظيم الشعائر بتعظيم ذبائح الحج باستسمانها، وغلاء أثمنتها.
وقال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: “شعائر الله هي معالم الحج: الكعبة، الصفا، المروة، عرفة، المشعر الحرام ونحوها من معالم الحج، الهدي…”
أما ابن كثير فقد فسر شعائر الله: بأوامره، وزاد تفصيلا فقال:”ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، تعظيمها يعني استسمانها واستحسانها.”
والملاحظ في تفاسير العلماء أن هناك من فسر شعائر الله بمشاعر الحج فقط من النسك، الصفا والمروة، والبدن. ومنهم من فسر شعائر الله بأوامره وفرائضه، ومعنى ذلك أنه كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وما تعبدنا به فهو شعائره.
والراجح أن شعائر الله هي المعالم الظاهرة من دينه التي جعل بعضها زمانيا وبعضها مكانيا، ومعنى معالم: حدود الله.
ومن الشعائر الزمانية: شهر رمضان، الأشهر الحرم: ذو الحجة ، ذو القعدة، محرم، ورجب…
أما الشعائر المكانية: الصفا والمروة، مزدلفة، منى، الثلاثة مساجد التي قال فيها صلى الله عليه و سلم:” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه و سلم، ومسجد الأقصى.” رواه الشيخان.
ومن شعائر الله التي يجب أن تُعظَّم: أضحية العيد، لأن من مقاصدها مشاركة أهل الأمصار أهل الموسم. أهل الموسم لهم الحج و الهدي، و أهل الأمصار لهم الأضحية.
ولقد كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا ذبائحهم وضعوا على آلهتهم من لحومها ونضحوا عليها من دمائها، فأبطل الله أعمالهم، وبين أن المقصود من الأضحية هو تقديم الأفضل لله تعالى: ثمنا، حسنا وسمنا، ليس من أجل المباهاة وحب الظهور بل إمعانا في تعظيم الله، وتعميقا للتقوى في القلوب.
وإذا تأملنا أحوالنا أفرادا وجماعات، حُقَّ لنا أن نتساءل عن تقديمنا بين يدي الله تعالى، عن شعائرنا ومشاعرنا. هل اكتست لباس التعظيم؟ أم هي أعمال عادية، مجرد رسوم و أوضاع فارغة من كل مضمون.
هل فعلا نقدم لله الغالي والعزيز من أوقاتنا، صدقاتنا، مبادراتنا وعباداتنا؟
يقول الإمام الشعراوي في خواطره:” إن تعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فعله أو أدائه أو عمله، عظًّم الشعائر: أداها بحب وعشق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، بل وربما زاد على ما طلب منه.”
إن تعظيم الشعائر أداء لها بشغف وانشراح، بإحسان و إتقان، بديمومة (لا موسمية )و بشمولية (لا انتقائية).
ولقد ضرب القرآن مثالا لتعظيم الشعائر : إبراهيم عليه السلام الذي نعته الله بوصف جميل” الذي وفَّى”. لقد عشق التكليف، وعظًّم المكلِّف، لم يقف عند المطلوب منه: بناء البيت كيفما اتفق، لكنه بذل جهده كاملا لتشييد بناء جميل، وجعل يقف على الحجر تلو الحجر حتى أتم البناء.
وختاما، إن أعمق رسالة توصلها هذه الأيام المباركات من ذي الحجة هي رسالة تعظيم شعائر وحرمات الله، بهذا سنصل للجائزة الكبرى: التقوى.