إنجيه يكتب : الأسرة وبناء القيم
يشهد العالم اليوم تحولات عميقة على مستوى العناية ببناء القيم؛ والمتضرر الأول هو الإنسان الذي يراد له أن يتحرر من كل مقومات إنسانيته، ويحشر في حيز إتباع الهوى الموقع في الردى؛ بتعزيز انشغاله في حدود نفسه، والانخراط الكلي في تلبية احتياجاتها الذاتية بعيدا عن مقتضيات الالتزام الجماعي الذي يرتكز على المعاني الايجابية في هذه الحياة.
يعاني كثير من الأفراد والأسر من مشكلات عميقة، ليس أقلها فقد الإحساس بالانتماء الأسري، والركون للوحدة، ومعانقة آلام الفراق الروحي وأحيانا الجسدي لأن الإنسان اجتماعي بطبعه وإن مال إلى الانعزال.
العناية بالأسرة وإشاعة ثقافتها: جهاد مستمر إلى يوم الدين؛ جهاد علمي وفكري، وكدح متواصل تتجدد بما يناسب الزمان والمكان، يتطور مع التحولات الاجتماعية، غايته تحقيق معنى الميثاق الغليظ، وصيانة مقاصدها الشرعية؛ فهي مسؤولية ورسالة.
لقد وردت في كتاب الله تعالى نصوص حقيق أن تدرس، وتتم العناية بها، ومراجعة معانيها؛ لبيان حقيقة الرابطة الأسرية، وما تقوم عليه من أسس تمثل الضمانة التامة للعيش في سعادة وطمأنينة وبُعد عن منغصات الحياة…
نصوص ذات دلالات عميقة إذا ما تم تمثلها في حياتنا، أولها : قول الحق سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21].
فالأسرة بمقتضى هذه الآية آية من آيات الله تستحق منا التعظيم والتقدير والإجلال، غايتها السكن ولحمتها المودة والرحمة؛ ومن الواجب التعامل معها بهذا الوصف، حتى نرتقي بأنفسنا وبأسرنا، وأن نبحث عن صور السكن والسكينة في ثنايا علاقاتنا، وأنتم تعلمون أن الواحد منا لا يمكن أن يقوم بوظيفته داخل الأسرة إذا لم يكن مرتاحا ومطمئنا وهذا طبعا من معاني السكن…
والمعنى السابق يتأكد في قوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا} النحل: 80، فالتعبير بالسكن تعبير عن حصول الارتياح والميل والاطمئنان، وهذا لا يحصل إلا إذا كانت الأسرة قائمة على الهدي الشرعي، واعية برسالتها، ساعية إلى الإسهام في تخريج الصالحين…
ويزداد التعبير القرآني وضوحا وعمقا لتحقيق المعاني الرفيعة في وصف علاقة الزوجين؛ كما في قول الحق سبحانه :”هن لباس لكم وأنتم لباس لهن“ البقرة187، والكل يعلم حاجتنا للباس لقضاء مآرب وغايات عدة فهو للتجمل والزينة، وستر العيوب، وللدفء وغير ذلك من المعاني التي يمكن تتبعها من هذا العبير القرآني الجليل..
وبالمحصلة فالزوج جمال وزينة وستر ودفء لزوجته وهي كذلك بالنسبة له؛ وإذا لم تتحقق هذه الأوصاف فاعلم أن العلاقة الزوجية بلا روح ولا معنى، وهذا يسهل انفراط عقدها ولو بعد حين..
وننتقل إلى جانب آخر من أسس الأسرة المتمثل في التكامل في الحقوق والواجبات، فالحق سبحانه وتعالى يقول :”ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف“ البقرة 228؛ تحقيقا للتكامل بين الزوجين الذي هو الأصل وليس التماثل، فللزوج مسؤوليات يتعين عليه القيام بها وعدم التفريط فيها تجاه زوجته كما للزوجة مسؤوليات يجب عليها رعايتها…
إن الاهتمام بالحقوق المشتركة والحرص على القيام بها يُعد من أهم ضمانات استقرار الأسرة، وأبرز هذه الحقوق : الرعاية واللطف والإنصاف والعدل والحب والرحمة والاستمتاع والمواساة والخدمة والإعانة على الطاعات وصلة الأرحام وفعل الخير والتواصي به وبالصبر…
ولأهمية عقد الزواج عبر الحق سبحانه وتعالى عنه بقوله : “وأخذن منكم ميثاقا غليظا” النساء 21؛ وعليه فلا بد أن ينتبه الزوجان لخطورة العقد الذي يجمع بينهما وأن يكون من أولوياتهما عدم تعريضه للمخاطرة، وأن يحرصا على صيانته من كل المهددات..
قالوا عن الأسرة :
” إن تكوينها دين، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة الأوبئة التي تهددها جهاد، ورعاية ثمرتها من بنين وبنات جزء من شعائر الله تعالى” محمد الغزالي/ قضايا المرأة ص 110.
الأسرة منشأ العلاقة الأخلاقية بين الناس بحق؛ بحيث لا علاقة إنسانية بغير أخلاق ولا أخلاق بغير أسرة” طه عبد الرحمن/ روح الحداثة ص 100.
” العلاقة الزوجية : عقد بين قلبين، ووصل بين نفسين، ومزج بين روحين، وفي الأخير تقريب بين جسمين” محمد البشير الإبراهيمي عيون البصائر ص 327.
“الأسرة تقوم على أمومة حانية، وأبوة راعية، وبنوة بارة، وأخوة عاطفة، وتتربى في ظلها مناعة المحبة وعواطف الإيثار والتعاون” القرضاوي/ كيف نتعامل مع القرآن
” تشكل الأسرة مركز النواة للمجتمع وهي محضن النمو والتنمية والتنشئة والتربية؛ فمنها ينمو العدد ويمتد، وفيها تنمى الخصائص الفردية والاجتماعية، وتحدد سمات الشخصية الإنسانية وتزرع البذور الأولى لمستقبل الحياة السلوكية” عمر حسنة التفكك الأسري والحلول المقترحة كتاب الأمة 83 ص 12
” الأسرة معقل القيم، ومن خلالها بتم النقل الاجتماعي لذلك، وهي الوحدة الحضارية الأقوى.. وقد حاول فرعون تدمير الأسرة وإلغاء دورها ورسالتها والقضاء على إنتاجها ضمانا لاستمرار فساده، ولكنه أوتي من قبل الأسرة والحمد لله.. عمر عبيد حسنة /التفكك ..
” إن الأسرة هي أهم وأعظم مؤسسة في العالم؛ إنها لبنة البناء في جدار المجتمع، ولا يمكن أن تقوم قائمة أية حضارة دون تماسك الأسرة، ولا أن تحقق أية مؤسسة أخرى في الوجود دورها المهم.. ستيفن كوفي/ العادات السبع للأسر الأكثر فعالية – ص91.
” والثقافة الأسرية الجميلة هي ثقافة الضمير (نحن)، إنها ثقافة تعكس هذا التحرك من (أنا) إلى (نحن)؛ إنها الثقافة التي تمكنكم من العمل معا من أجل اختيار الوجهة والتحرك إليها، والمشاركة، وتحقيق فرق، في المجتمع عامة وربما في أسر أخرى خاصة، وإنها ثقافة تجعلك قادرا على التعامل مع القوى المؤثرة التي قد تطيح بك خارج المضمارـ مثل الطقس المتقلب خارج الطائرة…” العادات السبع للأسر الأكثر فعالية ص 24.
كان هذا تذكيرا بمركزية وظيفة الأسرة في المجتمع، وأنها المحضن الذي يخرج الأجيال، والمكان الذي يأوي إليه الزوجان كما الأبناء والآباء، وأن مهمتها تتجاوز طرفيها لتمتد في الآفاق؛ شعارها ما جاء على لسان عباد الرحمن في سورة الفرقان: “ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما”.. كما تمتح من الأعماق وترعى الأصول : “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ” سورة إبراهيم 41.
وكلما ارتقت نظرتنا لأسرنا كلما سعدنا بها، ووفرنا الأجواء لسعادة محيطنا؛ فنحن بحاجة إلى أن نجدد العهد داخل أسرنا لنجعل منها فضاءات للعبادة بمفهومها الشامل الجامع لكل معاني الخير التي يرضاها الله سبحانه وتعالى..
ولنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم النبراس العظيم والقدوة العالية؛ فقد كان رحيما بأهله وفي خدمتهم، وحرصا على هدايتهم، وعلى لزومهم جانب الطاعة لله تعالى، وهو القائل :” خيركم خيركم لأهله وأن خيركم لأهلي”؛ فيتعين علينا جميعا أن يكون اهتمامنا منصبا على إقامة أسر متماسكة أساسها المودة والرحمة، وطريقها التأسي بسنة النبي وصلى الله عليه وسلم في بيوتاته..
إننا نحتاج إلى اجتهاد استثنائي لإشاعة قيم عليا في الأسرة ومحيطها حتى نرتقي بأسرنا، وتسمو بيوتنا إلى مراتب العطاء غير المحدود لأنفسنا ولأبنائنا وللأمة والمجتمع بل للإنسانية كافة…
القيم : معايير وموازين نحكم من خلالها على الأفعال والأذواق والمواقف والعلاقات. بكار: مسار الأسرة ص 30.
ولتيسير فهم القيمة : يمكن الإجابة عن سؤال ماذا يعني لك شيء ما؟
التربية على القيم في عصرنا هذا من أعظم ما يعتنى به، وتتحقق بها بإذن الله مقاصد عدة لصلاح المرء وفعاليته، ومعرفته ربه، وعيشه في كنف الشريعة على الاستقامة والهدى، مع انتفاع بالمباحات، وابتعاد عن مزالق الشهوات، ومهاوي التطرف والتجافي عن الطريق القويم..
منظومة قيم الأسرة :
- الفقه بالأحكام الشرعية للأسرة
- طاعة الله تعالى ومخافته والتزام الصدق
- العدل والإنصاف وإيصال الحقوق
- الحرية المسؤولة والشورى والاحترام والتقدير والحوار المثمر
- البذل والعطاء المتواصل والإحسان
- الوفاء وحفظ العهد والتواضع وخفض الجناح
- الصبر والعفو والصفح
- المودة والرحمة والتفضل وعدم الاستقصاء وأحيانا التغافل
- الإسناد والتضامن والمؤازرة عند الشدائد والإعانة على نوائب الحق
- العفاف والإحصان والحياء والستر
- التعاون والخدمة ونكران الذات، والثناء والاعتبار
- تكامل الأدوار في الإعداد والتأهيل للحياة
- رعاية حقوق الأرحام والصهر والنسب.
بعض أدوات البناء :
- الحرص على التخلق بالقيم علما وعملا
- صياغة ميثاق يتضمن طرق تدبير العلاقة الأسرية ومعالجة المشكلات
- دوام المراجعة والتجديد لأساليب تنمية العلاقة الزوجية
- تحسين شروط الحكامة العقلية، والعناية بالسلوك وتهذيبه
- الالتزام والوفاء بالتعهدات على النفس وللغير
- رصد الاختلالات والعمل على علاجها، والتعرف على التجارب الأسرية الناجحة
- إبراز مواطن القوة وتحسس مواطن الضعف في العلاقة الأسرية
- إعطاء القدوة والمشاركة في ميادين الإصلاح
- سؤال الله تعالى التوفيق والفلاح، “ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما”.
مهددات القيم :
- الجهل بمقاصد الأسرة وأحكامها الشرعية
- الانحراف السلوكي والجرأة على محارم الله
- ثقافة التدمير والتنقيص من شأن الأسرة/ دعاوى التحرر ومخططات التدمير الأخلاقي والمفاهيمي، وموجات التناول الإعلامي بتضخيم ملفات وقضايا، واستدراج المؤسسات التشريعية لسن قوانين مقيدة لصلاحيات القضاء، ومعرقلة للوظيفة الإصلاحية للأحكام (الأمهات العازبات، التمييز، العنف ضد المرأة، الاغتصاب الزوجي، تزويج القاصرات…)
- ثقافة الاستهلاك والاستجابة لنظام السوق : ” كيف يلتئم نظام السوق والأسرة؟ السوق يأنف من المجانية ومن الإحسان، والأسرة عالم المجانية والتضامن”. حسن أوريد : مرآة الغرب المنكسرة ص105.
- التكليف بما لا يطاق، والخضوع لسلطة العادات والتقاليد دون مراعاة للإمكانيات الذاتية.
- الإهمال والتملص من المسؤولية.
التعاون على تربية النشء :
إن التربية السليمة للأبناء مُنْطلقها إيجاد أجواء الوئام والحب داخل الأسرة، وتيسير سبل أداء الطاعات والالتزام بها، وأن يكون هَمُّ الأبوين فضلا عن واجبات النفقة والكسوة؛ بناء الوعي وتعزيز الثقة، والتربية على القيم، وإيصال المعارف الدينية الأساسية تدريجيا مع مراعاة المراحل العمرية…
وهذا مشروع قائم الذات يحتاج إلى إعداد للأبوين، واهتمام متواصل من قِبَلهما بموضوعات التربية ومعارفها، والاطلاع على التجارب قديمها وحديثها لضمان القدرة على التأثير الإيجابي في الأبناء، وتوجيههم التوجيه الحسن..
يقول الدكتور عبد الكريم بكار (1) : إن تربيتنا لأبنائنا تقوم على أن نُمَلِّكهم شيئين أساسيين: الجذور والأجنحة.
الجذور تعني أن نغرس فيهم كل القيم والمبادئ العزيزة على قلوبنا، وعلى رأسها قيمة التوحيد وحب الله تعالى، والتقوى والصدق والجدية والمثابرة والاستمرار في التعلم والتعاون…
غرس هذه القيم النبيلة والعظيمة يحتاج إلى القليل من الكلام والكثير من العمل، وإن إيجاد بيئة أسرية تتجسد فيها هذه القيم هو الإنجاز الأهم والأصعب، وهذا يحتاج إلى اعتماد مبدأ: نربي أطفالنا في الوقت الذي نعيد فيه تأهيل أنفسنا لنكون قدوة صالحة لهم.
يحتاج أبناؤنا منا إلى جانب الجذور إلى أن نملّكهم أجنحة تمكنهم من مغادرة العش والطيران في فضاء الاستقلال الشخصي، وكثيراً ما يكونون في حاجة إلى الطيران بعد حصولهم على الثانوية حيث يذهبون للدراسة الجامعية في بلد آخر.
تمليكهم الأجنحة يقوم على الآتي:
- معاملتهم باحترام وتقدير لمواهبهم، لأن معاملة الفتيان والفتيات باحترام هي التي تفتح وعيهم على احترامهم لأنفسهم و تقديرهم لإمكاناتهم الشخصية.
- الثقة بهم والتعامل معهم على أنهم أشخاص موثوقون وخيِّرون.
- تفويض بعض شؤون المنزل إليهم كي يتحملوا مسؤوليتها، حيث إن الشخصية تنبثق من أعماق الشعور بالمسؤولية.
- مشاورتهم في كل ما يُعَدُّ شأناً عاماً من شؤون الأسرة.
- تعليمهم فن الحوار والتفاوض مع الآخرين.
- شرح المبادئ الأساسية للسلامة الشخصية و تنبيههم إلى ما يشكل خطورة عليهم.
- التواصل المستمر معهم وإشعارهم أننا سنكون إلى جانبهم حين يحتاجون إلينا.
ومن أساسيات التربية الحضور الأبوي وتحمل المسؤولية بطريقة مشتركة بين الأبوين، والانتباه إلى التغيرات التي تطرأ على الأبناء تبعا لمراحلهم العمرية، وهذا نجد له سندا في الآثار التي وردت في السنة من مثل : الابن سبعة أمير وسبعة أسير، و”داعب ابنك سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا”..
والمصاحبة مهمة وتتأكد جدا بالنظر إلى واقع اليوم وما استجد فيه من مشاغل واهتمامات وتقنيات… وهي تتجلى في تتبع أحوال الأبناء، ومراعاة مُتَعهم لتكون متوافقة مع الأهداف المرجوة منهم…
إننا مسؤولون عن هذه الهبات التي أعطانا الله تعالى فلا بد أن يكون همنا استقامتهم وتفوقهم وايجابيتُهم في التعامل مع تطورات الحياة، وهذه المسؤولية تعظم كلما اشتدت المخاطر التي يتعرض لها الناشئة، وتحتاج إلى تعاون وتكامل في الوظائف بين مختلف المؤسسات التربوية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية؛ غير أنَّ مبتدأ كل ذلك نضج الأسرة ووعيها برسالتها ويقظتها الدائمة المواكبة للتحديات…
إن الكلام في هذا الموضوع كثير، ونكتفي بما ذُكر عسى أن يكون حافزا لهممنا لمزيد بحث وتقص وتكوين، إضافة إلى العناية بالمدارسة للواقع وتحدياته، وللمناهج وآثارها، والعمل على التطوير المتواصل لوسائل التربية والتوجيه، وأساليب التأثير من أجل تحقيق نهضة معرفية من شأنها الإسهام في هذه المسؤولية الجليلة.
——-
1 – وقفات للعقل والروح.