إنجاز بطعم الإيمان – سحر الخطيب
كم هو جميل أن تعيش مبادئك وقيمك في جميع مناحي حياتك، تحس أنك متناغم مع الكون، متجانس مع ذاتك، متدفق العطاء، متألق الآفاق. هذا ما شهدته أمة الإسلام خلال هذا الشهر عند تنظيم الحدث الرياضي الضخم الذي يجمع جميع القارات وجميع البلدان في محفل عالمي يحتفي بالإنجاز وبالمهارة الرياضية في مجال رياضة كرة القدم، انطلاقا من الجهة المنظمة، مرورا بالفرق المشاركة إلى الفريق الفائز بقلوب وعقول العالم المنتخب المغربي المسمى بحق “أسود الأطلس”.
نعم كانوا أسودا عندما فرضوا هيبة و عزة و فخرا لم تشهد له الإنسانية مثيلا عبر تاريخ هذه اللعبة المؤثرة، لم يظهر هؤلاء الأسود مهارة في مجال الرياضة واللعب والمراوغة فقط بل برزوا و بجلاء عندما أعلوا باعتزاز قيم ومبادئ الأمة.
إن أول ما برز جليا في هذا المحفل هو الاستعداد الجيد للجهة المنظمة، دولة قطر، وكان هذا المحفل مناسبة للدعوة إلى الله عز وجل، فقد قامت بدعوة أشهر الدعاة إلى هذا المؤتمر وأعدت العدة من ترجمة ومن تطبيقات ذكية وزيارات بهية لمساجد الدوحة، وأتاحت الصلاة في جماعة والنداء إليها خلال المباريات لإبراز العبادة الأولى في الإسلام وإبداء وتيرة تواصل المسلم مع خالقه طيلة اليوم.
كان هذا المحفل أيضا مناسبة للاحتفاء بقيم الإسلام الخالدة من كرم وبهجة واستضافة وطلاقة واحتفاء وتوفير ما يحتاجه المسافر والمقيم من أمن و أمان و أماكن للإيواء. ولا يفوتنا أن نحيي إقدام و شجاعة الدولة القطرية على منع الخمر وحظر رفع رمز الشذوذ، وأدخلت كل هذه الجهود المتضافرة لخدمة الوافدين السرور على القلوب والراحة على الأنفس والابتهاج على الأرواح.
أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تستعرض كل هذه المظاهر هو مكانة الإيمان في هذا الحدث الاستثنائي. إنه الإيمان عندما يفيض على الكون، فتستسلم له جميع الكائنات من جميع الأجناس والأعراق، ويرفع كل معتز بإيمانه وانتمائه عاليا.
إنه الإيمان الذي برز جليا و بقوة في عدة أفلاك : الإيمان بالله برز في عبارة “دير النية” التي جابت أقطار المعمورة لصاحبها المدرب وليد الركراكي، ومعناها أن تجعل أصل كل عمل ابتغاء وجه الله، كما برز في قراءة الفاتحة والدعاء قبل اللعب، وفي الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، وقبل كل شيء في استصحاب المعية الإلهية، ثم في السجود شكرا لله بعد المباريات.
هذا الإيمان، لو كان كل مسلم موحد يستبطنه استبطانا ويفصح عنه إفصاحا، لتغير حال الفرد والأسرة والمجتمع والأمة إلى أحسن حال، ولتحقق ما يصبو إليه كل واحد في هذا الوطن العزيز، من أصغر عامل إلى أكبر موظف أو إطار ممتاز، هذا الفلك الإيماني هو أصل كل الأفلاك الأخرى التي سنعرض لها أدناه.
فلك آخر من أفلاك دوران الإيمان، وهو فلك الإيمان بالقدرات والسعي، إن الفريق المغربي البطل، رغم قصر مدة استعداده كفريق للبطولة العالمية، أفرغ وسعه واستثمر قدراته بطريقة مثلى لتحقيق هذا الإنجاز التاريخي. فكلما كان الإيمان بهذه القدرات وبهذا السعي قويا، كلما واكبه استعداد نفسي متين ومحكم وتدريب بدني شرس. وهذا ما تم بالفعل على أرض الواقع. فقد آمن الناخب الوطني بهذه القدرات والكفاءات ثم قام ببعثها وصقلها وتوحيدها في فريق كفؤ وماهر.
إن هذا الإنجاز لم يكن من الممكن أن يتم دون أن ينبض بالإيمان بدور الأسرة، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، وقد مثلت للعيان بشكل فطري عفوي لا يقبل الجدال ولا النقاش. فوراء كل لاعب ماهر أم أو أب أو كلاهما معا، كانا بمثابة القوة المحركة والدافعة نحو الفوز.
إن مجرد حضور وتشجيع الوالدين ضخ الطاقة والحيوية ضخا في نفسية اللاعبين وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على التواجد الوازن لدور الأسرة منذ البداية قبل أن يكون اللعب وبعد أن كان اللعب، هذا وإن مذاق الفوز والإنجاز بحضور وتشجيع الأسرة لذو نكهة مميزة لا تنمحي أبدا. من المؤكد أن الفلك الأسري والروابط العائلية هما مصدر الإشعاع والمعين الذي لا ينضب حيث يتألق بر الوالدين كنتيجة حتمية للقيم الأسرية.
إن هذا الحدث الرياضي الذي يتتبعه العادي والبادي كان مناسبة لإعادة بعث قيم في طور الاندثار، كان مناسبة لإحياء فطرة سليمة يراد لها الإتلاف، فجاء هذا الإنجاز القيمي ليذكر بالفطرة، بالأم و بالأب، بالحب وبالبر في عالم هيمنت عليه الفردانية والمصلحة الشخصية وفي عالم طغت فيه الأنا على حساب نحن.
يلي هذا الفلك الجوهري الذي هو الإيمان بالأسرة، فلك الإيمان بالوطن، فرغم أن معظم اللاعبين يلعبون في فرق دولية كبرى تنتمي لعدة بلدان منها العربية ومنها الأوروبية، فقد آثروا اللعب لفائدة الوطن وعلى رأسهم المدرب الأصيل، ابن البلد الذي رغم نشأته وتعلمه في فرنسا إلا أنه آثر أن يفيد بلده الأصلي، فلم ينحن هؤلاء اللاعبون للعروض المغرية أو المضايقات المهينة التي سبقت إدراجهم في المنتخب الوطني، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كل كفاءة لها أن تقوم بالخيار الحاسم المتمثل في تسخير مواهبها ومكتسباتها للوطن، رغم تواجدها في أرض خارج أرضه و تحليقها في سماء بعيدة عن سمائه.
كلنا أمل أن الإيمان بالوطن سيرجع الطيور المهاجرة إلى موطنها وأن يحظى هذا الأخير بإمكانية الاستفادة من الأدمغة والكفاءات متعددة الاختصاصات كل في مجال اشتغاله وتخصصه.
من الإيمان بالوطن، نحلق إلى فلك الإيمان بالأمة وقضاياها، قام، بالفعل، المنتخب الوطني والجمهور المغربي بنصرة قضية الأمة الأولى، قضية فلسطين والأقصى، فتم حمل العلم الفلسطيني بجانب العلم المغربي والطواف بالملعب والتقطت الصور لهذا الحدث، كما رفع الجمهور العلمين المغربي والفلسطيني في المدرجات حتى قيل أن عدد الفرق المشاركة في بطولة كأس العالم لكرة القدم هي 34 وليس 33 فريقا لأن معظم الفرق العربية أعلت علم فلسطين خلال المباريات التي خاضتها.
أضف إلى ذلك أن مفهوم الأمة تعزز عندما كان المنتخب الوطني ينتقل من فوز إلى فوز ويحظى بتشجيع وفرح وفخر جميع الأطياف من الشعوب والجاليات العربية والإسلامية في جميع أرجاء الأرض.
فإذا كانت المنتخبات الأخرى يهتف لها جمهور بلدها، فمنتخب المغرب هتف له جميع العرب والمسلمين، هنا تجسدت حقيقة الأمة الواحدة وشاهدنا ذلك بالصوت والصورة على الهواء مباشرة وفي جميع وسائل التواصل الاجتماعي. كما شهدنا نصرة لثوابت الأمة في الميدان وفي المدرجات، فتوالت هتافات موحدة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة في حضور الرئيس الفرنسي في مباراة النصف النهائي.
يا لروعة هذا الإحساس العارم بتعاضد الأمة وتكاتفها وتآزرها في هذا الحدث الرياضي، وإنه، بالتأكيد، سيكون أروع إن تحقق في مجالات شتى وميادين عدة.
ختاما، إن الإيمان المتدفق من التنظيم ومن المشاركة في هذا الحدث الرياضي العالمي إن نم عن شيء فإنما ينم عن قفزة حضارية نوعية، غيرت الموازين و قلبت المفاهيم. إذا كان اللاعبون قفزوا لرمي الكرة في الملعب، فقد وثبوا عاليا للارتقاء بالفطرة السليمة وبالأسرة الكريمة وبالقيم الحميدة وأنزلوها منزلتها السامية التي أرادها لها المولى عز وجل.
لقد سجل المنتخب المغربي الهدف في مرمى الخصوم ببراعة ومهارة عالية سيظل العالم يتحدث عنها لأجيال وقد يحتذي هذا العالم حذوهم لعله يحرز نصرا أو فوزا يسجله له التاريخ.