إشكالية التعامل مع النصوص الشرعية في ضوء المقاصد الشرعية من خلال كتاب مقاصد المقاصد للدكتور أحمد الريسوني
يعد الدكتور الريسوني من أبرز ــ إن لم نقل أبرز ـ العلماء الأعلام المعاصرين المتخصصين في الفكر المقاصدي في العقود الأخيرة ومن يتتبع جل إصداراته العلمية والدعوية يجدها تنحو هذا المنحى المقاصدي، والكتاب الذي سنقف عنده في هذا المقال ليس بدعا مما أومأت إليه آنفا، فكتاب”مقاصد المقاصد الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة” يأتي في سياق تحقيق هدفين اثنين سطرهما المؤلف في مقدمة الكتاب :
- محاولة ترشيد وتسديد للحركة المقاصدية التي أصبحت متنامية في عصرنا الحالي حتى تحقق مقاصدها وأهدافها.
- بيان مقاصد علم المقاصد وما يقدمه من ثمرات وما يسده من ثغرات.
وبالنظر إلى الهدفين نستخلص أن الكتاب يهتم بمقاصد الشريعة في بعديها العملي التطبيقي التنزيلي وفي بعدها العلمي النظري التنظيري.
وانطلاقا من هذا السياق طرح الكتاب جملة من الإشكالات والتساؤلات والتخوفات المثار حول ” المد المقاصدي ” في ارتباطها بالنصوص الشرعية والثوابت الشرعية والمنظومة الفقهية والأصولية، وتتلخص هذه المخاوف إجمالا في تساؤلين اثنين :
– هل اتباع المقاصد والتعليل بها سيؤدي إلى تغيير النصوص والأحكام على نحو مغاير ومن تم تجاوز النصوص الشرعية والاكتفاء بالمقاصد ؟
– هل عامة الناس ملزمون بمعرفة مقاصد الشريعة أم أن هذا مجرد بلبلة وتشويش لهم في دينهم وأنه منافي لمبدأ التسليم للأحكام كما هي؟
إن ما حتم على المؤلف طرح هذه التساؤلات وما تنطوي عليه من إشكالات متعلقة بالفكر المقاصدي هو بروز عدد ممن يخوض في علم مقاصد الشريعة ممن أسماهم ” غير المتخصصين أو من المتخصصين غير المؤهلين أو المغرضين التحريفيين … الذين يأتون بالغرائب والعجائب من الآراء والفتاوى المخرجة تخريجا مقاصديا .
وبعد بسط هذه التساؤلات والمخاوف انطلق الكتاب من حقيقة ” لا محيد عنها ” والمتمثلة في مركزية المقاصد في التكليف والتشريع عموما مستحضرا قولة الإمام الشاطبي ” المقاصد أرواح الأعمال ” وبناء عليه اعتبر أن روح القرآن والسنة النبوية والأحكام الشرعية في مقاصده وفي تحقيقها ما أمكن .
وقد أجاب المؤلف عن هذه التساؤلات في ثنايا فصول الكتاب الثلاث :
- مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنة
- مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد
- المقاصد العملية للمقاصد
وبتمحيص فصول الكتاب تستوقفك نظرة المؤلف العميقة والفاحصة للموضوع في مختلف أبعاده، هذه النظرة التي تستحضر التأصيل الشرعي إلى جانب التنزيل المعاصر على حال الأمة وحاجاتها وواقعها ومن أبرز ما يمكن أن يستوقف القارئ والمتصفح للكتاب أشكلته للمعارف المتضمن في الكتاب في علاقتها بموضوع المقاصد ثم تقديم الإجابات المعرفية والمنهجية الممكنة، ومن هذه الإشكالات التي صاحبت مقاصد الشريعة في علاقتها بالنصوص الشرعية قديما وحديثا سواء في شقيها النظري أو التنزيلي :
1 – إشكالية ثنائية النص والمقصد: أو بعبارة الدكتور الريسوني ” توجه مقاصدي ” وتوجه نصوصي ” أو مدرسة مقاصدية و مدرسة نصية فهذا التصنيف الذي ينم على إشكالية من إشكاليات التي صاحبت العلوم الإسلامية عبر تاريخها وهي إشكالية التحيز المعرفي منذ ظهور مقولة أهل الأثر وأهل الرأي ومقولة أهل الفقه وأهل الحديث … وغيرها،فهذه الثنائية اعتبرها الدكتور الريسوني متكاملة تكاملا لا يمكن معه الفصل بينهما “فليس هناك مقاصد الشريعة سوى مقاصد الكتاب والسنة وكل ما هو خارج عن نصوص الكتاب والسنة وليس له نسب فيها فليس من مقاصد الشريعة في شيء … وهذا التصنيف يقول الريسوني ينطوي على خلل فادح وهو الاعتقاد ــ أو الإيحاء ــ بأن التوجه المقاصدي ليس نصوصيا”
2 – إشكالية تعامل المفسرين مع التنزيل نظرة تجزيئية بدل النظرة التكاملية : وفي هذا يقرر الريسوني أن العناية بالمقاصد الكلية للقرآن الكريم لم تبرز بوضوح إلا على يد بعض المفسرين والدارسين المعاصرين مع أن معرفة هذه المقاصد وتحقيقها هي الفائدة الكبرى والغاية القصوى للقرآن الكريم و علومه ومباحثه، وعزز الريسوني انتقاده لهذا المنحى التجزيئي في التفسير الذي يفرق تفسير الآية بمعان بعيدة ومسائل معقدة ليست من مقاصد القرآن الكريم في شيء بما قرره إمام المقاصد أبو اسحاق الشاطبي في موافقاته ومحمد رشيد رضا في تفسير المنار والطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير، فهذه التجزيئية لآي القران الكريم أنتجت بعضا من الإشكالات المعرفية والمنهجية في التعامل مع القرآن الكريم ” فنجد قضايا استوفت حقها أو كادت واخرى استوفت حقها ثم زادت بينما نجد بعض الآخر قد غمط حقه وبعضها لم يظهر إلا متأخرا وبعضها مازال ينهض متعثرا كما هو شأن العناية بالتناسب ومقاصد السور مثلا “.
وسيرا على نهجه ــ الريسوني ــ في تحرير القضايا وتدقيق المرجعيات قصد تنوير الأفهام بقراءة النصوص والاجتهادات السابقة قراءة جديدة فقد بسط في ثنايا كتابه جملة من المقاصد التي استخرجها انطلاقا من مسلكين :
- ما جاء التنصيص عليه في القران الكريم من مقاصد : فذكر خمسة مقاصد تحدث عنها القران الكريم .
- ما جاء عن طريق الاستقراء والاستنباط : ذكر استنباطات بعضا من العلماء القدامى أبو حامد الغزالي والعز بن عبد السلام والبقاعي ومن المعاصرين رشيد رضا والطاهر بن عاشور، كما استنبط مقصدا آخر سماه ” مقصد تقويم الفكر ” الذي عقد له مبحثا من عشر صفحات بين خلاله تجليات عناية الكتاب العزيز بهذا المقصد.
3 – إشكالية التعامل مع النص النبوي فهما وتنزيلا : لاشك أن سوء فهم السنة النبوية يخلق حالة من التشويش لدى الفرد المسلم وقد يترتب على ذلك سلوك طريق بعيد عن حقيقة ومقاصد الإسلام ورحم الله محمد الغزالي إذ قال ” والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أسيء فهمها واضطربت أوضاعها حتى جاء أخيرا من ينظر إلى السنة جمعاء نظرة ريبة واتهام ويتمنى لو تخلص المسلمون منها ”
ولرفع هذا الإشكال فإن الدكتور الريسوني رسم لذلك معالم منهجية تفضي إلى الإسهام في معرفة وفهم مقاصد النص النبوي وتحكيمها ومن هذه المعالم المنهجية :
- معرفة الصفة التي صدر عنها وبمقتضاها الحديث النبوي
- معرفة سبب ورود الحديث وسياق مخرجه
ونظرا لخطورة هذا الإشكال و ينتج عنه من أزمات وآفات عقدية وفكرية واجتماعية تفضي في بعض الأحيان إلى إنكار السنة جملة وتفصيلا فقد استطرد الدكتور الريسوني في سرد الأمثلة والنماذج التطبيقية تبين بجلاء نظرة المؤلف الثاقبة وقدرته التأصيلية للقضايا التي تم النظر فيها خاصة في باب الاجتهاد وعلاقته بالمقاصد حيث أكد في أن المجتهد يلزمه قواعد منهجية للتعامل مع النص الشرعي ومن أبرزها:
- التحقق من مقصود الشرعي
- تحري الحكمة والمصلحة المقصودة من وراء الحكم المنصوص
- التحقق من مما قد يظن مقصدا وليس بمقصد
- التمييز بين ما هو مقصود لذاته وما هو مقصود لغيره
- مراعاة المقاصد العامة للشريعة عند كل تطبيق جزئي
- مرعاة المقاصد الخاصو بالمجال الشرعي الذي تنتمي إليه مسألة البحث
- مرعاة مطلق المصالح المشروعة
- ترتيب الحكم ودرجته يقدر المصلحة أو المفسدة
- مراعاة المقاصد عند اجراء القياس
- اعتبار المآلات والعواقب
وفي الختام فإن المؤلف يدعو إلى نشر ثقافة المقاصد بين عموم المكلفين ” بل إن إدراك مقاصد الشريعة وأخذها مباشرة من نصوصها وأحكامها ليس دائما متوقفا على العلماء واجتهاداتهم واستنباطاتهم بل هناك مقاصد وحِكم لا تكاد نخفى على أحد ومنها ما لا يحتاج إلا لقليل من الاهتمام والانتباه”.
محمد حافظ