إذا رأيت الفتاة شاعرة، فاسأل عن الأسرة – الحبيب عكي
في حجم التيه والبذاءة والعنف والركاكة المتفشية في صفوف العديد من الأبناء،لم أكن أتوقع أن أرى اليوم برعمة صداحة في منتهى اللطف والشياكة وروعة الخلق والكياسة، قد أنارت دار الثقافة في المدينة بكل عمق فطري وفكري يخلو من السطحية والسياسة، أنارت البرعمة دار الثقافة وهي التي نظمت أمسية شعرية للقراءة في أعمال شاعرها الموهوب والمحبوب ع.أبو يوسف، فإذا بها قد أصبحت في الحقيقة وبالإجماع هي المحتفية الأولى وبها المحتفى، أمتعت جمهور الحاضرين وهم لا يكفون عن تشجيعها بالإعجاب والتصفيق، وهي التي حلقت بنا في هنيهات قصيرة في العدد مديدة في المدد،طافت بنا فيها عبر مختلف حدائق الشعر تمتحنا من حكم الدهور حكمة حكمة وتهدينا من رياحين الزهور زهرة زهرة، وقد كادت تصقل فينا ذلك الجوهر الإنساني الذي طالما علاه ويعلوه غبار الحياة.
لله در هذا الشعر وكيف جعل بسحره الأخاذ من هذه البرعمة وهي لم تتجاوز ربيعها الحادي عشر فقط، ولكنها قد حفظت من الأشعار وبحوره وأغراضه ضعف ما يحفظ أترابها من سفاسف الأغاني، ولها من الطموحات الجادة والاجتهاد بقدر ما يكون لهم من مجرد العجز والكسل والأهواء والأماني، طفلة تعرف من أسماء الشعراء والشاعرات ودواوينهم والكتاب والكاتبات ومؤلفاتهم بقدر ما يعرف غيرها من أسماء المغنيين وأغانيهم والرياضيين وفرقهم والعارضات وعروضهن والممثلات وأفلامهن، طفلة بهية تمضي من أوقاتها – على لسان أمها التي قدمتها – تمضي في قراءة الكتب وقرض القصيدة والخاطرة وحبك القصة والمقالة، بقدر ما يمضي زملاؤها في عبث الألعاب الإلكترونية وعنفها والتيه في مواقع التواصل الاجتماعي وإدمانها، ولقد كسبت بذلك ثمرة تحدي الترتيب الوطني في تحدي القراءة العربي.
إن في الشعر لحكمة، وصدق السلف وقد كانوا في همتهم يعلمون أبنائهم السير والمغازي والحكم والأشعار، حتى أن كثيرا منهم جسدوا بحق رجالات كتب لا ينطقون إلا بالعلم والمعرفة والفقه والحكمة التي سيرت الحال وقومت الأحوال أفضل ما يكون دهرا طويلا ولا تزال، وها هي شاعرتنا البرعمة بكل ثقة في النفس ثقة العارفين، تتقن فن التعبير والتصوير والكتابة والإلقاء، ولها قضية إنسانية أخذت تشعر من أجلها وهي مصدر كل لواعجها وأشواقها، وبها امتلأت كنانيشها الحالية ودواوينها المستقبلية ،وكم من رسائل وجهتها بالمناسبة في قصائدها إلى من يهمه الأمر قبل القراء، وباللغتين العربية والإنجليزية، إلى أمها وأبيها،ومعلمتها وزميلتها،إلى وزير البيئة والطفولة، إلى حاكم السند والهند، إلى من يقرر الحروب الضارية على الشعوب والتهجير القسري على البشر، إلى البسمة والأمل والشجن والألم، إلى الضمير العالمي لعله يوما يستيقظ من أجل حياة أفضل.
لقد أرادت أم أن تسحب ابنها من معلم الأطفال القرآن ذات زمان، فقال لها:”لماذا”؟،قالت له:”إني أريده أن يتعلم شيئا يمكنه من مخالطة السلطان”؟، فقال لها:”دعيه فلا شيء سيمكنه من ذلك أفضل من القرآن”؟، وفعلا تركته وكذلك كان حيث مكنه حفظه وتجويده وعلمه وفقهه من ارتياد مجالس الكبار ومخالطة السلطان؟، وها هو الشعر والشعر أحسن المواهب قد مكن هذه البرعمة من تحقيق حلمها، حيث قدمتها أمها في مداخلتها خلال تلك الأمسية مع مشموم من الورد عربون محبة لشاعر كانت تتابع أعماله فأعجبت به وبإبداعاته وعوالمه وأساليبه الإبداعية، قدمت فلذة كبدها للشاعر فصافحها على تصفيقات الحاضرين بكل الود والترحاب، بل وألقت أمامه قصيدة من قصائده فأحبها وقصيدة من قصائدها فأجازها، بل وجارته هي وأمها في ارتجال شعري ثلاثي أبدعت فيه الأيقونات الثلاثة في مختلف البحور وشتى التعابير التي حركت الوجدان والمشاعر، فنالت إعجاب الجمهور وحق فيهم قول الشاعر:”جاذبتي ثوبي العصي فقالت…أنتم الناس أيها الشعراء”.
أيها السادة،لا تسألوا عن الحب في زمن الكوليرا، بل اسألوا عن”كارسيا ماركيز”وعالم جدته الأسطوي الذي أسس لها، ولا تسألوا عن الماس و الذهب في زمن الحديد والحطب والنطيحة وما أكل السبع، لا تسألوا عن هذه البرعمة الشاعرة الساحرة في زمن “البلايستاشن” و”الكولفازور” و”الأنستغرام” و”السناب شات”، وقد حفظت الكثير من قصائد شاعرها المفضل وخبرت الكثير من أساليبه حتى كادت تغرق في بحوره،بل عن بيتها وأمها الطيبة اسألوا، وقديما قيل:”الأم مدرسة إذا أعددتها ..أعددت شعبا طيب الأعراق”، هذه الأم الفاضلة- التي نجدد لها التحية وندعو الله أن يكثر من أمثالها-، وهي توصي جمهور الحاضرين في الأمسية ومن خلالهم الآباء والأمهات والمربون فقالت:”أوصيكم ثم أوصيكم، أن علموا أبنائكم الشعر، فإن الشعر علم ومعرفة، فكر راق ونضج باق، أسلوب وثقافة تهذيب وأخلاق..إن الشعر تهذيب وأخلاق”.
صدق من قال:”لدينا الكثير من وسائل التواصل ونفتقد إلى التواصل، ولدينا الكثير من المدارس ونفتقد إلى التربية، ولدينا الكثير من المستشفيات ونفتقد إلى العلاج..”، ولكن في الحقيقة أين جمعياتنا وبرامجها من تربية المواهب، ليس في الشعر وحده بل في ما يحفظ لهم هويتهم من القرآن والحديث والسيرة واللغة والأخلاق، وما يبرز فيهم مواهبهم من الخط والرسم والتشكيل، وما يواكبهم عصرهم من القصة والمسرحية والتصوير والمونطاج.. وغير ذلك من دروب التكوين والتأهيل والإبداع وكلها تشكو الخصاص؟؟ أين مدارسنا في مناهجها وهي تقتل المواهب بضعف الأنشطة الموازية وغياب فرص ومسابقات صقلها وإبرازها ؟؟ أين الأسر والآباء والأمهات وهي لا تعترف إلا بالدراسة والدراسة وحدها ولو أصبحت سبب تعاستها؟ إلى متى يظل الجميع يفقد المفهوم في التربية والبوصلة في التوجيه؟ إلى متى نظل نستسلم للواقع الذي يفرضه الآخرون ونشتكي منه بدل أن نبادر نحن ونصنع الواقع الذي نريده ونحتاجه؟
ألا نعيش اليوم صدامات في المعاملات الأسرية والمدرسية تطغى فيه القسوة والجفاء والكلام النابي والفاحش بين الأزواج والراشدين من جهة و من جهة أخرى بين الجنسين و الأقران والصغار والأبناء؟ أليس لدينا العديد من ضحايا الفقر اللغوي والضحالة التعبيرية والركاكة الكتابية والسطحية الأسلوبية والضبابية المفاهيمية..؟ ألا نعيش تراجعا فظيعا في الأناشيد التربوية وطغيان”الكلاشات” السوقية العنيفة عليها؟ ألا يمكن أن يلعب شعر الأطفال وقراءة وثقافة ووعي الأطفال دورا أساسيا في إنتاج مثل هذه الأناشيد التربوية بكلمات معبرة ومهذبة من صميم همومهم، منهم وإليهم برؤيتهم وأسلوبهم ولما لا بألحانهم؟؟ طبعا كل شيء ممكن، ولكن ليس قبل أن نرفع هذا التحدي الخطير وهو تحدي الأسرة والتربية، ولعل في هذه الحكاية بعض المداخل والحوامل لذلك، لعل فيها بعض مفهوم الأسرة الراعية والحانية وبعض مفهوم التربية المبادرة والداعمة، أو التربية الأسرية، وبالأخص تلك التربية الوالدية التي كانت وستظل رغم كل شيء هي ينبوع الخيرات وسر المعجزات وهي الأس والأساس، هي كل شيء وعليها يبنى كل شيء.