عبد الرحيم شيخي: أين نحن من ابتلاء وامتحان غزة وفلسطين؟
حلَّت بنا خلال الأشهر المنصرمة عدد من المناسبات والأيامِ الوطنية والدولية التي كانت تستحق منا التوقف عندها للذكرى والاعتبار، وللتأمل فيما تحقق من تقدم وإنجازات وما تعثر من طموحات وخاب من آمال.. غير أن ما وقع ويحدث في فلسطين وما يتعرض له أهلنا هناك من حرب إبادة جماعية.. وحصار وتجويع منذ أزيد من ستة أشهر، وفي ظل تواطؤ أمريكي غربي وخذلان عربي إسلامي رسمي.
كل هذا وغيره كثير، جعل هذه المناسبات وأمثالَها، رغم أهميتها، تتراجع خلال هذه المدة في سلم الأولويات ليتقدمها النهوض والوقوف للنظر فيما نحن مبتلَوْن به جميعا في فلسطين ولا سيما غزة، وما نحن مبتلَوْن به أيضا في بلدنا وكافة البلدان العربية والإسلامية وغيرها من بلدان العالم، والبحث عن الأجوبة الصحيحة والمبادرات المناسبة اليوم وغدا، والاستعداد للأسئلة الحق عند الله رب العباد أجمعين.
ولئن كان البلاء الحاصل لأهلنا في غزة وفلسطين والابتلاء الذي هم فيه منذ أمد ليس بالقصير، أصبح اليوم يعرفه الكثيرون .. ويشاهدون وقائعه بالصوت والصورة ويتابعون أحداثه بالأرقام والتحليلات والمواقف والتصريحات، فإن ما نحن فيه من بلاء وابتلاء، نحن البعيدون جغرافيا عن ساحة المعركة، ما نحن فيه من بلاء وابتلاء وامتحان.. لا ينتبه له الكثيرون منا، ولا نوفيه حقه، أو قد لا يَلْقى من البعض منا العناية اللازمة والاستجابة المطلوبة.
فأي بلاء حسن نحن فيه .. إذ ننعم بالاستقرار والحرية في الكسب والتنقل والعيش مقارنة بأهلنا هناك، وأي بلاء عظيم نحن فيه .. إذ نستصعب المشاركة في فعالياتٍ نصرةً لهم ونبخل بأوقاتنا وجهودنا وأموالنا، ولا ننفق مما لدينا دعما لصمودهم وثباتهم ورباطهم، ويتلكأ البعض منا في مقاطعة بضائعِ ومنتجاتِ الأعداء وداعميهم.
أي ابتلاء نحن فيه إذ يحتار البعض منا متى يسافر وأين يجد راحته؟ وأهلنا هناك في غزة لا خيار لهم إلا النّصَب والتعب والسعي المتواصل لتجنب القصف والتدمير الذي لا يعلمون متى وأين سيحِل.
أي اختبار صعب نحن فيه أمام ما يتوفر لدى أغلبنا من أنواع الطعام والشراب الذي يضيع جزء منه ليس باليسير؟ وأهلنا هناك جائعون ومجوّعون، وإذا ما قصدوا مساعدات وطحينا لسد رمقهم وإطعام أبنائهم طحنتهم آلة الإجرام الصهيونية عن بكرة أبيهم.
أي امتحان شديد نحن فيه، إذ يجد البعض منا الوقت والجهد للاختلاف في كيف نخرج في مسيرة تضامنية .. ومن سيكون في صفها الأول وغيرها من التفاصيل التي يسكن أغلبها النفس والشيطان..؟ وأهلنا هناك لا وقت لديهم لذلك فأرواحهم على المحك وكلهم، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، شيبا وشبابا، أطفالا ورضع، في صف واحد أمام العدوان الذي يستهدف البشر والحجر والشجر والحيوان.
أي ابتلاء وبلاء وامتحان واختبار، ونحن نرى إعلانات لمهرجانات الغناء والرقص على جراحنا في مدن الرباط والصويرة وغيرهما دون أي اعتبار لآلاف الشهداء والجرحى والمصابين والمفقودين من أهلنا هناك الذين يستحقون منا شهورا وربما أعواما من الحداد على مصابهم والسعي لمداواة جرحاهم والبحث عن مفقوديهم.
أي اختبار وأي امتحان شديد نمر به قد يفوق في بعض جوانبه اختبار أهل غزة.. نعم قد يفوقه. إذ امتحانهم، رغم تعدد أسئلته وتعقدها، له جواب واضح واحد هو التشبث بأرضهم وحقوقهم.. بما يقتضيه ذلك من مقاومة للعدوان، ومواجهة لمخططات التهجير والتجويع والترويع والتركيع، ولو أدى ذلك إلى إبادتهم واستشهادهم.
أما نحن.. فامتحاننا ورغم أنه يتضمن سؤالا بسيطا واحدا هو: هل نبذل جهدنا ووسعنا، فرادى وجماعات، للقيام بواجبنا في نصرتهم حق النصرة؟ فإن الجواب عنه خياراته متعددة بتعدد شخوصنا ومؤسساتنا وأحوالنا وأوضاعنا، وباختلاف وسعنا. ولا أحد منا قادر على الجزم بأنه وفَّى وكفى وأدى واجبه وبذل وسعه.
فأي جواب نعده ليوم الحساب والسؤال حيث (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟)([1])
وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟
ماذا عمل كل واحد منا بعلمه الذي يدخل فيه أيضا علمه بمصائب البشر عموما ولا سيما ما يمس إخوته من المسلمين؟ سؤال واضح لكل واحد منا لن نجد في الجواب عنه مهربا، وقد لا تكفي فيه الإشارة إلى أن هناك من كان ينوب عنا ونحن نعلم أن الأمر جللٌ، ولم تحصل فيه كفاية سواء بما يُقدم من أعمال وجهود أو بمن يقومون عليه ويقدمون لأجله الكثير.
وأي جواب مقنع نقدمه لأهلنا ولأبنائنا وأحفادنا وللأجيال المقبلة إذا ما سألونا، ليس عما فعلناه من أجل أهل غزة والقدس والأقصى وفلسطين، بل إذا ما سألونا: أفقط هذا ما كنتم ستفعلون لو كنا نحن أبناؤكم وأحفادكم وأهلكم تحت القصف والتدمير والإبادة والحصار والتهجير والتجويع والأسر والتعذيب؟
أكان يهنأ لكم بال؟ أمْ بعد مدة تيأسون ويطالنا النسيان والإهمال؟ أكنتم ستبذلون وسعكم وكل ما تستطيعون لنصرتنا وإغاثتنا أم ستجتهدون في البحث عن أعذار والبحث عن مشاجب تعلقون عليها عجزكم وهوانكم؟
أَوَلَيْس أهل غزة والقدس وفلسطين أهلنا وإخوتنا مصداقا لقوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة)؟.
أَوَلَيْس (…المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ،…)([2]) كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال أيضا: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ ).([3])
وقال: (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى).([4])
وقال: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ.)([5])
وهو الذي أمر -صلى الله عليه وسلم -بسبع كان منها (نصر المظلوم) ففي الحديث الشريف: (أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبع ..، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردّ السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار القسم.)([6])
أوَليْسَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هو القدوة الأولى في ميدان المروءة وصنائع المعروف وإغاثة الملهوف حتى قبل بعثته، شهدت بذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها بعد أن أخبرها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بما حدث له في غار حراء وقال لها: (… قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَ اللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ ..).([7])
أي ضعف وهوان وعجز نحن فيه حكاما ومحكومين، شعوبا ودولا، إذ لم نستطع نجدة أهلنا ولو بالقليل رغم أنه لدولنا العربية والإسلامية الكثير ومسؤوليتها ثابتة، لا مجال للتهرب منها، اتجاه الأقصى والقدس وفلسطين.
أي ضعف وهوان نحن فيه ولم تستطع دولنا رفع صوتها بالشجب والإدانة لما يجري من مظالم، ولم تقو على الضغط على أعدائها لوقف العدوان ورفع الحصار، ولم تتجرأ على التهديد فقط بتجميد علاقاتها مع كيان الإرهاب والإجرام أو الإقدام على حل لجنة للصداقة العار مع المجرمين الصهاينة، مع أن الواجب يقتضي إيقاف مسار التطبيع المفروض والمرفوض، والسعي لمتابعة مجرمي الحرب الذين يتشدق العديد منهم بأصولهم المغربية.
أي ضعف وهوان وعجز أخرسَ العديد من المفكرين والمثقفين والعلماء والإعلاميين والسياسيين، ولم يجرؤ الكثير منهم عن مراجعة أنفسهم والتراجع عما قاموا به أو تورطوا فيه من علاقات مع كيان الإرهاب والإجرام الذي يبيد أهلنا ويخترق مؤسسات بلدنا ويهدد أمننا ووحدتنا واستقرارنا.
ولكم جميعا أن تستمروا في طرح الأسئلة الخاصة بكم وتبحثوا بصدق عن الأجوبة، وتُجْرُوا المقارنات، وأن تقوموا بتتبع مظاهر الضعف والعجز والخذلان، كل حسب وضعه وأحواله ووسعه واستطاعته. وأقدر بأننا سنقف جميعا على حقيقة أنه كان بإمكاننا القيام بأكثر مما قمنا به وأن علينا أن نستدرك أنفسنا ونحن نستدرك واجبنا اتجاه أهلنا في غزة وفلسطين.
وهنا وجب التنويه إلى أنني لا أبخس ما قام به ويقوم به العديد من الأحرار في بلدنا ومختلف أنحاء العالم. وهي مناسبة للإشادة بما قدمته الشعوب والهيئات والمؤسسات المدنية الداعمة لفلسطين والمناهضة للتطبيع، والعديد من الأحرار والشرفاء من مبادرات وأعمال وجهود مقدرة، ومن بين شعوب العالم يتبوأ الشعب المغربي مكانة متقدمة في نصرة أهله في غزة وفلسطين وتقديم كافة أنواع الدعم الممكنة بما ينسجم مع مواقفه التاريخية المشرفة، التي يعتبر فيها قضية فلسطين قضية وطنية. وهو ما يتطلب منا بذل المزيد ويُلقي على كاهلنا مسؤولية عظمى نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوفاء بمتطلباتها.
وقد لخّص ابن القيم رحمه الله أنواع مواساة المؤمن لأخيه المؤمن تلخيصا جيدا فقال: (المواساة للمؤمن أنواع: مواساة بالمال.. ومواساة بالجاه.. ومواساة بالبدن والخدمة.. ومواساة بالنصيحة والإرشاد.. ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم.. ومواساة بالتوجّع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة وكلما قوي قويت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله .. فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له ..)([8])
فاللهم إنا نسألك أن تحفظ أهلنا في غزة وفلسطين بعينك التي لا تنام وعزك الذي لا يُضام، ونسألك أن تنصرهم على من عاداهم وتثبت أقدامهم وتربط على قلوبهم، اللهم أمدهم بجُندك وأنزل عليهم سكينتك وسخر لهم الأرض ومن عليها.
اللهم يا رب انصر المرابطين المستضعفين من أهل غزة وفلسطين، وبارك جهاد المجاهدين وأيدهم بجنودك ونصرك يا قوي يا كريم. وانتقم يا رب من أعدائهم، واقذف الرعب في قلوبهم وردّ كيدهم في نحورهم.
– اللهم يا رب وفقنا للقيام بواجبنا اتجاه أهلنا في فلسطين، ووفقنا لبذل ما نستطيع وكل ما في وسعنا لنصرتهم، وللدفاع عن أوطاننا وأمتنا.
آمين والحمد لله رب العالمين.
المهندس عبد الرحيم شيخي
***
[1] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص. حديث صحيح.
[2] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله.
[3] مسند الإمام أحمد، حديث رقم: 32370، صحيح الجامع الصغير رقم:6659.
[4] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم. واللفظ له.
[5] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم.
[6] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه، صحيح ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.
[7] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[8] الفوائد، 1/171.