أريد أن أتوب ولكن !! – فتيحة المتاقي
يتساءل الإنسان عن عدم قدرته على التوبة من المعاصي التي *أصبح معتادا عليها أو أصبحت هينة لديه* رغم وعيه بأنها معاص، أي *أنها* أعمال لا يحبها الله عز وجل ويعاقب على فعلها وقد يحبط عمله بسببها؛ ويزداد مع إصراره عليها أو تكرارها ألمه وتأنيب ضميره، *مما يدفعه* للرجوع إلى الله تعالى والاستقامة على طريقه، وهذا يدعوه للتساؤل عن أسباب عدم التوبة رغم رغبته فيها وعما يمكن للمذنب المعترف بذنبه فعله للرجوع إلى مولاه.
إن الإصرار على المعاصي له أسباب متعددة رغم وعي الإنسان بخطورتها وعواقبها دنيا وآخرة، ومن ذلك نذكر:
أولا: التسويف
*فقد* ينوي الإنسان التخلص من آثامه، فيستغفر لذنوبه، ويبكي على عصيانه مولاه بترك بعض أوامره أو إتيان بعض نواهيه، و*قد* يهم بالإقلاع عن المعصية غير ما مرة، لكنه لا يكون حازما في الفعل كما في القول والنية، فينتظر ظرفا مناسبا اشترطه على نفسه، وسببا مناسبا قيد به توبته، وتمضي الأيام فالشهور فالأعوام حتى يجد نفسه قد اعتاد المعصية وتقبلها وألفتها جوارحه فيصعب عليه بعد ذلك التوقف عنها، وقد تدركه المنية فيها.
ثانيا: التوكل على رحمة الله تعالى الواسعة
فغالبا ما نسمع العاصين من أمتنا يرددون “إن الله غفور رحيم” إذا ما *انتبهوا* لمعصية يقترفونها سواء كانوا واعين أو غير واعين بها ولم يستطيعوا الإقلاع، فالمبتلى بذلك يعتمد على رحمة الله تعالى، مما يسوغ له تقبل المعصية والاستمرار عليها، وقد يردف (لم يكتب لنا الله الهداية بعد) وهو لا يعلم أنه يفشل همته وعزيمته برهنه التوبة بهداية الله، وينسى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ثالثا: الإغترار بالنعم
إذ يغتر المبتلى بما آتاه الله تعالى، أو آتى من هم أكثر منه معصية، من نعم وأفضال رغم كثرة الذنوب والخطايا والابتعاد عن الحق، فيحتقر ذنوبه ويستصغرها، فتصير في نظره شيئا لا يشغل البال ولا يقض مضجعا، فتضعف عزيمته وقدرته على الإقلاع عن المعصية، وتفتر إرادته ويموت ضميره.
رابعا: الإغترار بالأعمال الصالحة
ومن معيقات التوبة أن يغتر الإنسان بما قدم من أعمال صالحة في حياته أو *التي ما* زال مواظبا عليها رغم استمراره على المعصية بالموازاة، فيغتر بعمله الصالح وينسى عمله الطالح، ناسيا أو متناسيا أن من المعاصي ما يحبط العمل.
خامسا: اليأس من رحمة الله
ومن المعيقات كذلك اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى على كثرة المعاصي والخطايا أو عظمها، فيقطع حبل الرجاء من مغفرة الله عز وجل وعفوه وكرمه ورحمته، *فبدل* العودة إليه سبحانه يفر منه، فيحكم على نفسه بالخسارة والعياذ بالله.
سادسا: العودة إلى المعصية بعد كل توبة
إن الإنسان يمتعض من نفسه ويخجل من ربه عندما يتوب من معصية ثم يعود لارتكابها من جديد، فيمتنع عن إعادة التوبة، وعن رفع أكف الضراعة بالاستغفار خجلا واستحياء من الله تعالى.
إن الاستقامة على شرع الله تعالى ركيزة من ركائز فوز الإنسان في الدنيا، ومنزلة عظيمة من منازل الدين، غير أن الإنسان بطبعه خطاء ومذنب، لذلك جعل الله له باب التوبة مفتوحا ليلا ونهارا، فماذا يجب على الإنسان أن يفعله حتى يتوب توبة نصوحا يتجاوز معها كل المعيقات والصعوبات التي تبعده عنها؟
يجب على الإنسان أولا أن يخلص النية لله تعالى في توبته، ويندم على فعله المعاصي ويستغفر الله لذنوبه، فإذا صدقت نيته وخلصت لله تعالى علت همته وقويت عزيمته، ولم يبق له إلا اتخاذ الأسباب الكفيلة بجعله يقلع عن *المعصية* ويتخلص منها. ومنها:
أولا: أن يقلع عن المعصية حال وعيه بكونها معصية وعدم التسويف في توبته، فعمر الإنسان غير مضمون *مهما* طال أو قصر، *سواء كان* في صحة أو في سقم، فلا يدري أحد متى تأتيه المنية لتسد باب التوبة في وجهه، فلابد للإنسان أن يسارع إلى التوبة من المعاصي. كما أن القلب *إذا* اعتاد على المعصية يصعب عليه التخلص منها، فعن حذيفة رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ )) متفق عليه.
فليحذر الإنسان من *التعود* على المعصية فيموت قلبه ويطبع عليه والعياذ بالله تعالى.
ثانيا: عدم الإصرار على المعصية والتمادي فيها اعتمادا على رحمة الله تعالى، فليعلم الإنسان أن الله تعالى أمرنا أولا بإصلاح الأرض لا *الإفساد* فيها، إذ قال عز وجل في سورة الأعراف: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 56. فليسأل المذنب نفسه أهو محسن أم مفسد بإصراره على المعصية؟ وقد خص الله سبحانه وتعالى عباده المتقين بالرحمة، فهل تجتمع التقوى والإصرار على المعصية؟ يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) الآية 156.
وكما أن الله تعالى تواب رحيم فإنه سبحانه جبار قوي شديد العذاب. فهو القائل سبحانه في سورة الحجر(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) الآيتان 49 و 50.
لذلك وجب على المذنب المبادرة بالتوبة ويطلب من الله الإخلاص فيها وتقبلها برحمته ومغفرته الواسعة.
ثالثا: ألا يحتقر الإنسان ذنوبه مهما صغرت في نظره فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ” أخرجه أحمد في صحيحه.
وقد قال الشاعر ابن المعتز العباسي ناصحا محذرا من صغائر الذنوب:
خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها *** وَكَبيرَها فَهوَ التُقى
كُن كماشٍ فَوقَ أَرض *** الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى
لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً *** إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى
وقد قال بعض السلف أيضا: “لا تنظر إلى صغر المعصية لكن انظر إلى عظم من عصيت”.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري أنه قال:” إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا. قالَ أبو شِهابٍ: بيَدِهِ فَوْقَ أنْفِهِ”
فالذنب بالاحتقار والاستصغار يكبر ويعظم ويصعب التخلص منه ومهما آتاك الله من أفضال فإنها لا تعني أنه راض عنك رغم ذنوبك، فرزق الله تعالى يؤتيه من يشاء وحكمة الله لا يعلمها إلا هو.
رابعا: إن ما يقوم به الإنسان من أعمال صالحة لا تغنيه عن عدم الإقلاع عن الذنب شيئا، فإن الانسان يظل عاصيا مذنبا حتى يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحا، بل المؤمن الحق يعمل الخيرات ويفعل الصالحات وقلبه وجِل أن لا تقبل منه، قال الله تعالى في سورة المؤمنون (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) الآية 60.
سألت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: “أ هو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا آبْنَة أبي بَكْرٍ، أو يا آبْنَةَ الصّدِيق، وَلَكِنَّهُ الرَّجُل يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيخافُ أنْ لا يُقْبَل مِنْهُ “
خامسا: عدم اليأس من رحمة الله تعالى، فإن اليأس من رحمة الله تعالى مدخل من مداخل الشيطان. فليعلم المذنب أن الله تعالى بشّر بقبول التوبة من عباده، وأنه بسط يده ليتوب المسئ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ((إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها)). رواه مسلم.
وقد أمرنا الله عز وجل ألا نيأس من رحمته على لسان يعقوب عليه السلام إذ قال في سورة يوسف ” وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” الآية 87. ونادى سبحانه وتعالى الغارقين في المعصية قائلا في سورة الزمر: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) الآية 53.
سادسا: الحياء الحقيقي من الله تعالى يكون بتجنب معاصيه لا الرجوع عن باب توبته استحياء منه تعالى. فالحياء شعبة من شعب الإيمان ولا يمكن أن يقود الانسان إلا إلى ربه لا هربا منه، فهذا الشعور ما هو إلا ضعف إرادة وجب محاربته بالعزيمة وقوة الإرادة والإصرار على الإقلاع عن المعصية.
وفي الختام فهذه بعض معيقات التوبة التي يجب على المذنب أن يفطن إليها، وتلتها طرق للتخلص منها وجب على المؤمن المذنب العمل على العمل عليها، مع تدريب النفس على التفكير السليم المبني على النيات الصادقة المتبوعة بالأعمال الحسنة حتى تستقيم حياته على المنهاج الرباني فيفوز دنيا وآخرة.