أحكام الصوم ومقاصده: مسائل حول زكاة الفطر
سؤال: ما حكم إخراج القيمة في زكاة الفطر؟
الجواب:
من القضايا التي تثار باستمرار مع اقتراب عيد الفطر مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر عوضا عن القوت الوارد في الحديث. وهذاالمقال لا يدعي أنه سيحسم الخلاف القديم حولها، لكن غايته بسط أدلة القائلين بمشروعية إعطاء القيمة، وبيان أنه رأي معتبر قال به ثلة من أهل الفضل والعلم، كي تحصل الطمأنينة لمن أخذ به. أما من اختار التمسك بالنص وعدم الخروج عليه فله ذلك وهو مأجور على نيته.
تندرج هذه المسألة ضمن مسألة أكبر تتعلق بأي الأمرين أولى:الوقوف مع النصوص دون الالتفات إلى مقاصدها وغاياتها، أم الحرص على تحقيق المقصد الذي شرع لأجله الحكم؟ وهو خلاف قديم بينالفقهاء من جُل المدارس. وقد أشار له الإمام المازري عند مناقشة مسألة الطهارة بالمائعات غير الماء كالخل أو ماء الورد،حيث أورد تعليلالمالكية والشافعية في القصر على الماء لأنهم رأوا:” أنها وإن كانت عبادة معقول معناها معلوم أن الغرض بها زوال عين فيجب قصرها على مورد الشرع. يتعلق فيها بتخصيص النصوص ويكون ذلك أولى من الاسترسال على حكم الغرض”[1]. بينما رأىالحنفية أن : ” اتباع قصد الشرع والجري على حكم القياس فيه أولى”[2]. ثم أدرج المازري الاختلاف في قضية إخراج القيمة في الزكاة وخاصة زكاة الماشية التي ورد فيها تحديد العين وقال: “ونظير اختلافهم في هذه المسألة الاختلاف أيضًا في مسألة إخراج القيم عن الزكاة. لأن الشرع جاء بإخراج الزكاة وعلم أن القصد بها سد خلة المساكين. ولكن الشرع نص على أعيان تخرج كبنت المخاض والحقة. فمن أَتبع مواقع التخصيص ولم يلتفت إلى المقصود، منع من إخراج القيم. ومن اعتبر المقصود وجرى معه أجاز إخراج القيم لأنها تسد خلة المساكين كما تسده بنت المخاض والحقة“[3].
إن الخلاف في هذه المسألة سيبقى إلى ما شاء الله، لكن من نظر للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، سيجد أن موقف الحنفية الذي يميل إلى مراعاة المقصد واعتباره في الحكم هو الأقرب لواقع العصر ولما سيأتي مستقبلا. إن بعض الجمعيات الاسلامية في أوروبا كانت تنتصر لرأي الجمهور، وتجمع زكاة الفطر العينية ( الدقيق، الأرز …) في مقراتها لتوزعه على المساكين، فيجتمع لها الأطنان ولا يأتي له الفقراء، ويضيع عندها، لأنه لا يجوز لها بيعه ولا التصرف فيه بحسب قوانين البلد، فعدلوا عن ذلك إلى القيمة.وإن مصلحة المسكين لا تتحقق بأصْوَع ( جمع صاع) من القمح قد لا يجد الطاحونة لطحنها، وحتى أكياس من الدقيق ليست هي قوت الناس ، وقليل منهم من يعجن في بيته، ويصاف لذلك أن الخبز لا يمثل في وجبات الناس اليوم سوى أقل من الثلث، بينما باقي المكونات فيها الخضر واللحم والفواكه وغيرها. لقد كانتالفتوى في وطننا سابقا هي التأكيد على الالتزام بالنص، لكن ابتداء من 2010 جوّز المجلس العلمي الأعلى إعطاء القيمة ، وأبرز في فتواه بعض إيجابيات الأخذ بها على المعطي والمستفيد منها.
ومن جهة أخرى فإن المالكية والشافعية لم يقفوا مع النص بكامل حرفيته، بل قالوا بإخراج الزكاة من غالب قوت أهل البلد بينما نص الحديث كما رواه مالك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ“[4]. فالحديث عين أطعمة محددة، لكنهم قاسوا عليها وقالوا بإخراج الزكاة من غالب قوت أهل البلد. وتوسع المالكية في الأقوات حينا وضيقوا حينا آخر. روى عيسى عن ابن القاسمِ، قال: “إن كان العَدَسُ أو الحمصُ عيشَ بلدٍ، فأخرج منه، قال: هذا لا يكون، فإن كان رجوت أَنْ يُجْزِئه. وقال مالكٌ في “المختصر”: يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة، إذا كان ذلك قوتَه.”[5] ونقل ابن أبي زيد من سماع ابنِ القاسمِ، عن قومٍ ليس طعامُهم إلا التين، قال: لا أرى أَنْ يؤدَّى منه[6]. مع أن التين هو قوتهم.
أما قول بعض أهل العلم أن النقود كان معمولا بها في العهد النبوي، ولم يرشد لها النبي عليه السلام ، فنقول بأن النقود وإن وجدت لم يكن لها الرواج الموجود اليوم، فلو أخذ المسكين النقود فإنه لا يجد المتاجر والأسواق لشراء ما يحتاجه من طعام وغيره في ذلك الزمان،وتتعطلحكمة إغناء الفقراء عن التطواف والسؤال يوم العيد، وهي وإن لم يصح بها الحديث[7] إلا أنها مقصودة باعتبار التأكيد على إخراج الزكاة قبل صلاة العيد. .
أما قول من قال بتحريم إخراج القيمة ، وأنها لا تجزء فهو مجانب للصواب وقد قال جماهير الأحناف بجواز إخراج القيمة،وهم يمثلون نسبة كبيرة من علماء الإسلام، وقد اختلف النقل عن مالك في إجزاء إعطاء القيمة واستدل القرطبي للإجزاء بآية مصاريف الزكاة وقال: ” قد قال تعالى: ” خذ من أموالهم صدقة ” [ التوبة: 103 ] ولم يخص شيئا من شئ”[8]. ونقل ابن أبي زيد القول بالإجزاء. قال ابن أبي زيد قال مالكٌ:” ولا يُجْزِئُهُ أَنْ يدفع في الفطرةِ ثمناً. وقاله ابن القاسمِ في رواية أبي زيدٍ. قال عنه عيسى: فإن فعل لم أرَ به بأساً”[9].
إن الخلاف في المسألة قديم، وقد كتب العلامة أحمد بن الصديقالغماري الحسنيمنذ سنوات رسالة[10]بسط فيها وجوه مشروعية وأفضلية القيمة لزمانه وأوصل الأدلة لقرابة واحد وعشرين وجها. ومع ذلك فالعقول تتفاوت في قبول الأدلة، ولا أقل من لأن يعذر المخالف أخاه إن ارتضى غير رأيه، وقد أنشد بعض المغاربة:
أخرج زكاة الفطر في الطعام مقتديا بسيد الأنـــام
وغالب القوت طعام معتبـر والعرف مقبول لدى من قد غبر
والقصد إغناء الفقير عن سؤال في يوم عيد حاصلا على النوال
إخراجها نقدا حكاه البــــررة فاعجب لمن يصفهم بالفجــــرة
ونجل تيمية ترى رأيه ظهـــــر أجازها نقدا لشدة الضــــرر
والنصأمران فلفظ قد ظهر وروحه مقصده الذي ظهـــر
والشرع يجلب المصالح كما يدفع عكسها كما قد علـــــم
فليتسع صدر الفقيه للخلاف متى أتى معتبرا للإئتــــــلاف
سؤال من يخرج زكاة الفطر وعمن يخرجها؟
الجواب:
رأى المالكية وغيرهم أن زكاة الفطر تجب على الصغير والكبير ، الذكر والأنثى من المسلمين، وأن الذي يخرجها هو الذي تلزمه النفقة على الأسرة ، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه، والأبناء مع أبيهم أو أمهم حين تلزمهم نفقتهم . قال مالك : ” أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ”.
سؤال ما هو مقدار الواجب في زكاة الفطر؟
الجواب:
يرى المالكية أن القدر الواجب على كل فرد هو صاع من طعام، ودليلهم في ذلك ما رواه مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ”[11]. وعَنْ مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ:” كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.
و يعلم أن الصاع يختلف بحسب نوع الطعام هل قمح أو شعير أو تمر، وقد قدره بعض أهل العلم ب 2 كيلو ونصف تقريبا. لكن ينبغي التنبيه إلى أن الواجب هو أن يخرج الانسان ذلك من غالب قوت بلده، ولو نظرنا في واقع الأمة اليوم فإن الناس لا يقتصرون في قوتهم على الخبز، بل إن موائدهم تتضمن أنواعا كثيرة من الطعام فيها التمر واللحم والفواكه. وإذا كان المجلس العلمي الأعلى قد حدد الحد الأدنى في ثلاث عشرة درهما، فإنه ينبغي لمن وسع الله عليه أن يتطلع إلى الاقتداء ببعض سلف الأمة ممن كانوا يخرجون الأفضل من قوتهم لا قوت البلد. روى مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا التَّمْرَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيرًا”[12]. وقال الباجي في شرح الموطأ: ” إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَقْوَاتُ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ فَعَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ غَالِبِ قُوتِهِمْ وَأَكْثَرِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي جِهَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَقْتَاتُ بِغَيْرِ مَا يَقْتَاتُ بِهِ أَهْلُ بَلَدِهِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ اقْتَاتَ أَفْضَلَ مِنْ قُوتِهِمْ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ قُوتِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ…”[13]
وختاما أقول ما قاله ابن الجوزي في تلبيس إبليس :” الفقيه من نظر فِي الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد“[14].
فنسأل الله أن يلهمنا مراشد أمورنا ويهدينا للخير والسلام.
[1]التلقين، المجلد الأول، ص 463
[2]التلقين، المجلد الأول، ص 463
[3]التلقين، المجلد الأول، ص 463
[4] الموطأ، مالك بن أنس، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[5] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[6] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[7] روى الدارقطنيعَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ , وَقَالَ: «أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ». عن سنن الدارقطني (3/ 89) لكن ضعفه بعض علماء الحديث.
[8]تفسير القرطبي (8/ 175)
[9]النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[10] سماها: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال. وهي مطبوعة.
[11] الموطأ، مالك، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[12] الموطأ، مالك، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[13] المنتقى، الباجي (2/ 145)
[14]تلبيس إبليس (ص: 199)