آداب السفر عامة ومن أجل الحج خاصة
الحمد لله قال وهو أصدق القائلين:” ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون”
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد القائل: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها “( رواه البخاري ومسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال عز من قائل: ” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم اللهُ يُنْشـِئُ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير”
ونشهد أن سيدنا و نبينا ومولانا محمدا عبد الله و رسوله و مصطفاه من خلقه و خليله الذي قال:” ما من راكب يخلو في مسيره بالله و ذِكـْرِهِ إلا رَدِفـَهُ ملك، ولا يخلو بِشِعْرٍ و نحوهِ إلا ردفه شيطان”(رواه الطبراني بإسناد حسن)و القائل عليه الصلاة و السلام: “من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يَضُرَّه شيء حتى يرتحل من منزله ذلك”( رواه مالك و مسلم و الترمذي و ابن خزيمة في صحيحه). فصلى الله عليه و سلم من نبي أمين ناصح حليم، و على آله وصحابته، وعلى من حافظ على دينه و شريعته واستمسك بهديه و سنته إلى يوم الدين، صلاة و سلاما تجعلنا ببركتهما من الشاكرين لنعمائك علينا بإنزال الغيث من السماء، وتكشف بها عنا غيوم الهم و البلواء .آمين
أما بعد، من يطع الله و رسوله فقد رشد و اهتدى، وسلك منهاجا قويما و سبيلا رشدا، و من يعص الله و رسوله فقد غوى و اعتدى، وحاد عن الطريق المشروع ولا يضر إلا نفسه ولا يضر أحدا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا و إياكم ممن يطيعه و يطيع رسوله، حتى ينال من خير الدارين أمله و سؤله، فإنما نحن بالله و له،
عباد الله :إن العناية الإلهية قد اختصت هذا العام طائفة من المؤمنين والمؤمنات، ليكونوا من جملة الموفقين للقيام بحج بيت الله الحرام، وأداء هذه الفريضة العظمى من فرائض الإسلام، وهم لا محالة يستعدون الآن لهذه الرحلة الميمونة المباركة، فيتفقهون في كيفية أدائها، و يهيئون لها ما يلزم من الزاد والمتاع، و كيف لا؟ و هي عبادة عظمى وشعيرة كبرى من شعائر الدين التي يتوقف أداؤها على العلم، فالله لا يعبد بالجهل، و بما أن من واجبنا المشاركة في تنبيه الناس إلى ما يلزمهم عِلمُهُ وعَمَلـُهُ من أمور دينهم، وحيث إن هذه الفريضة لا تتم إلا بالسفر، فإنه من المتعين على الحاج والحاجة أن يكونا على بينة واطلاع على آداب السفر في الإسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، لذلك رأينا من المناسب – والمناسبة شرط كما يقال – أن نخصص خطبة اليوم لهذا الموضوع، ليحاول كل منهما العمل بالآداب الشرعية قدر الإمكان فيما يخص آداب السفر، فإن العمل إذا حَسُنت بدايته كَمُلت نهايتُه. ـ وللسفر بصفة عامة معاشر المؤمنين:
1 ـ آدابٌ قبل الشروع فيه. 2 ـ وآداب أخرى أثنـاءه. 3 ـ و آداب أخرى بعد الرجوع منه.
ـ فأما الآداب التي تكون قبل السفر: فقد ذكر العلماء منها إحدى عشر أدبا:
1 ـ استخارة الله تعالى: فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُعَلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن” (و الاستخارة: صلاة ركعتين بسورة الفاتحة و سورة الكافرون في الركعة الأولى، وسورة الفاتحة و سورة الإخلاص في الركعة الثانية، ثم بعدهما يقرأ دعاء الاستخارة المعروف) والحاج عندما يقوم بهذه الاستخارة لا يفعلها لنفس الحج، لأن الحج من الواجبات الشرعية كالصلاة و الصوم والزكاة والواجبات ليست محلا للاستخارة، وإنما يستخير الله هل يحج برفقة فلان أو فلان، وهل يحج مع وكالة الأسفار هذه أو تلك أو مع حجاج المقاطعات، لأن هذه الأمور ومثلها هي التي يتردد فيها الحاج، ولا يعلم في أيها يكون له المصلحة، فيستخير الله حتى يُيَسِّرَ له الأوفق والأسلم، و يصرفـَهُ عن العسر والمشقة و لشر، و يصرفَ عنه العسرَ والمشقة والضرر.
2 ـ استشارةُ ذوي الخبرة من العلماء، والأهل و الأصدقاء: فقد جاء في الحديث:” ما خاب مَن استخار ولا نَدِمَ من استشار”( رواه الطبراني في الأوسط عن أنس)
3 ـ تَعَلمُ ما يتعلق بالدِّين في هذا السفر: من الجمع بين الصلاتين، وقصر الصلاة، والتيمم، وكيفيةِ الحج و العمرة. فقد قال صلى الله عليه و سلم:” طلب العلم فريضة على كل مسلم” (رواه ابن ماجة والطبراني)، لذلك أجمع العلماء على” أنه لا يحل لامرئ مسلم أن يُقـْدِمَ على أمر حتى يعلم حكم الله فيه”.
4 – التوبة إلى الله و الاستغفار من الذنوب التي ارتكبها، وردّ المظالم والودائع إلى أهلها إن أمكن، أو الوصية عليها: وذلك حتى يذهب الحاج إلى ربه طاهرا نقيا ليس عليه تباعة أو مظلمة لأحد.
5ـ أن يترك لمن تلزمه نفقتهم من الأهل و العيال ما يكفيهم: فقد حذر صلى الله عليه و سلم من تضييع العيال، وعَدَّ ذلك إثما من الكبائر إذ قال:” كفى بالمرء إثما أن يُضيعَ من يعول” (الحاكم عن عبد الله بن عمرو، و صححه).
6 ـ أن يَتَّخِذ الزاد من الحلال: فالله طيب، و لا يقبل إلا طيبا و الحج لا يكون مبرورا، والسعي لا يكون مشكورا، و الذنب لا يكون مغفورا، إلا إذا حج الحاج بمال طيب حلال، قال صلى الله عليه و سلم :”إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز ( أي المركوب) فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك و سعديك زادُك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة (أي الحرام) فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام و نفقتك حرام وحجك مأزور غير مأجور”.( رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة).
7 ـ اختيارُ الرُّفقة الصالحة: لأن: الرفيق قبل الطريق ـ كما يقال ـ قال صلى الله عليه و سلم: “خير الأصحاب من إذا ذكرت الله أعانك، وإذا نسيت ذكَّرك”.(رواه ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري مرسلا).
8 ـ أن يجعل الركبُ واحدًا منهم أميرًا عليهم: حتى لا يختلفوا ويتنازعوا، قال صلى الله عليه و سلم:” إذا خرج ثلاثة في سفر فليُؤَمِّروا أحدَهم”، و لا يخفاكم ـ معاشر المؤمنين ـ أن الحج منهي فيه عن الجدال، والخصام، والرفث، والفسوق، فإن ذلك يُفسده، ويَحُولُ دون تحقيق المقاصد السامية، والحكم البليغة التي تبتغى من تشريعه وأدائه.
9 ـ صلاةُ ركعتين قبل الخروج من المنزل: قال صلى الله عليه و سلم: ” ما خلـَّفَ عبدٌ عند أهله أفضلَ من ركعتين يركعُهُما عندهم حين يريد سفرا”(رواه الطبراني و أبن أبي شيبة مرسلا)، “وكان صلى الله لا ينزل منزلا إلا ودَّعَهُ بركعتين”(رواه ابن أبي خزيمة عن أنس).
10ـ توديعُ الأهل و الأحباب و الأصدقاء: فقد كان صلى الله عليه وسلم يودع أصحابه في السفر ويقول لمن ودعه:” أستودع اللهَ دينَكَ و أمانتك و خواتمَ عملِك”(رواه أبو داود والترمذي وصححه) و يقول:” أستودعك الله الذي لا تضيعُ ودائعُه “( رواه ابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة) ومعنى ذلك: الدعاء بطلب الحفظ والحماية من الله،
11 – أن يطلبَ من أهل الخير والصلاح الوصية والدعاء: روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني أريد سفرا فزوِّدْني، قال صلى الله عليه و سلم : “زودك الله بالتقوى، و غفر ذنبك، و يسر لك الخير حيثما كنت” وفي رواية: فلما ولـَّى الرجلُ قال النبي صلى الله عليه و سلم:” اللهم اطوِ له البعدَ وهَوِّنْ عليه السفر” لذلك استحسن الناس إقامة الرجُلِ وليمة قبل ذهابه إلى الحج، يستدعي لها الأقارب و الأصدقاء ومن يرجو بركتـَهُم من أهل العلم وحملة القرآن العظيم، يودعهم ويودعونه، و يدعون له بالحفظ والسلامة والقبول والغنيمة ذهابا وإيابا.
نفعني الله و إياكم بالذكر الحكيم، و كلام سيد الأولين والآخرين ورزقنا جميعا الهداية والتوفيق و القبول آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله على نواله و إفضاله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمي، الصادق الزكي، وعلى آله، وعلى جميع من تعلق بأذياله، ونشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده ورسوله و بعد:
أيها المؤمنون، تلك كانت آداب السفر المطلوبة قبل الشروع فيه، و أما آدابه المطلوبة أثناء الشروع فيه فخمسة:
1 – أن يكون السفرُ يوم الخميس باعتبار بدئِهِ: فإن النبي صلى الله عليه و سلم قلما كان يخرج في سفر إلا يوم الخميس( البخاري) هذا و نحن نعلم اليوم أن الحاج ليس هو الذي يقرر يوم الخروج في رحلته إلى الديار المقدسة، وإنما قلنا ما قلنا تذكيرا للحجاج و المسافرين حتى يحمد الله الذين يوافق خروجهم يوم الخميس على موافقتهم السنة النبوية.
2 – التبكير: أي الخروج أول النهار إن أمكن، لقول النبي صلى الله عليه و سلم:” اللهم بارك لأمتي في بكورها”(رواه أبو داود و الترمذي)
3 – الإكثار من الذكر وقراءة الأدعية المأثورة: كدعاء الخروج من البيت، و دعاء الركوب ودعاء السفر، و دعاء الذهاب إلى المسجد، ودعاء الدخول إليه، و دعاء الخروج منه، والدعاء عند سماع الأذان و الإقامة، فالحاج و الحاجة يستحب لهما الإكثار من الذكر والدعاء لنفسيهما ولأهلهما ولمن استوصاهما بذلك، و لأئمة المسلمين وعامتهم، لأن دعاء المسافر مستجاب، خاصة المسافر الذي يريد بسفره طاعة الله و أداء فرائضه وشعائره كالحج و العمرة، قال صلى الله عليه و سلم:” ثلاث دعوات مستجابة دعوة المظلوم، و دعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده” ( رواه أبو داود و الترمذي)
4 – صلاة النوافل على المركوب: فعن عامر بن ربيعة قال: رأيت صلى الله عليه و سلم يصلي على راحلته حيث توجهت به” ( رواه البخاري)
5 – أخذُ قسطٍ من الراحة والنوم ليتقوَّى بذلك على الطاعة وأداء المناسك: قال صلى الله عليه و سلم:” إن لنفسك عليك حقا”( رواه البخاري).
وأما الآداب بعد السفر فستة:
1 – التعجيل بالرجوع: ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: “السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتـَهُ من وَجْهِهِ فليُعجل الرجوعَ إلى أهله” البخاري وأبو داود.
2 – استصحاب بعض الهدايا والتحف لإدخال السرور على الأحباب والأقارب: وذلك على قدر المستطاع من غير تكلف فقد صار استصحاب الحاج لبعض الهدايا عُرْفاً والعرف له في الشرع اعتبار ما لم يصادم نصا شرعيا أو مصلحة معتبرة شرعا، قال صلى الله عليه وسلم: “تصافحوا يذهبِ الغِّل، وتهادوا تحابُّوا وتذهب الشحناء”(رواه البخاري في الأدب المفرد، و مالك في الموطأ، و اللفظ له)، وأفضل هدايا مكة ماء زمزم و أفضل هدايا المدينة تمر العجوة، قال صلى الله عليه و سلم: ” من تـَصَبَّحَ بسبع تمرات عجوة، لم يَضُرَّهُ ذلك اليوم سمٌّ و لا سِحْرٌ” (رواه البخاري ومسلم). تصبح أي أكل في الصباح
3 – دعاء الركوب و السفر مع زيادة:” الله أكبر (ثلاثا)، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده”.
4 – إخبارُ الأهل بموعد الوصول: حتى لا يُباغِتهم – و الوسائل في زماننا ـ و لله الحمد ـ متوفرة وميسورة، فقد كان صلى الله عليه و سلم لا يطرق أهله ليلا، و كان يأتيهم غدوة أو عشية وكان ينهى عن طروق الأهل ليلا، ففي رواية لمسلم عن جابر قال:” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا”( و كل آت بالليل فهو طارق)، وبَيَّنَ صلى الله عليه و سلم الحكمة من هذا النهي فقال:” حتى تستحدَّ المُغيبة وتمتشط الشعِثـَة” ،أي تتزين لمقدم زوجها فلا يرى منها ما يكره.
5 – صلاة ركعتين في المسجد عند القدوم من السفر: وهذه سنة اندثرت بين الناس إلا من رحم الله، روى البخاري و مسلم عن كعب بن مالك قال:” كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قدم من سفر ضُحًى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس”.
6 – دعوة الناس للطعام فرحا بالقدوم: كما فعل النبي صلى الله و سلم فإنه” لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة”( رواه البخاري عن جابر) وهذا الطعام يسمى في اللغة: النقيعة.
عباد الله: لا تـُفـَرِّطوا في هذه الآداب، واعملوا بها قدر استطاعتكم، واستعينوا على ذلك كله بالإكثار من الصلاة والتسليم على ملاذ الورى في الموقف العظيم، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.
ذ. سعيد منقار بنيس