وقفة مراجعة – الزهرة الكرش
يقول مجدي الهلالي في كتابه (بناء الإيمان من خلال القران): “تحولت العقيدة إلى كلام نظري تمتلئ به الكتب… مما أدى إلى تضخيم الجانب المعرفي دون أن يصاحب ذلك إيمان حي في القلب، فكانت النتيجة ابتعاد الواقع عن الواجب والعمل عن العلم”، كلام يحتاج إلى كثير تأمل فما نعيشه اليوم ما هو إلا انعكاس للهوة التي باتت بيننا وبين كتاب الله.
الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا شربوا العقيدة من نبعها الصافي، تشربوها بقلوبهم وعقولهم فتحولت إلى واقع عملي تجسد في حبهم اللامشروط لله ورسوله وفي طاعتهما. تجسدت في نصرة لله ورسوله بالأموال والأنفس. عقيدة عقلتها قلوبهم فتداعت لها جوارحهم وبذلوا لنصرتها ونشرها كل غال ونفيس.
ما نعيشه اليوم هو انعكاس لصورتنا في المرآة، صورة تعكس عمق الهوة بين الزخم المعرفي النظري والتطبيق العملي لما وعته العقول. تطبيق الأصل فيه أن يصاحبه ويحركه إيمان قلبي عميق بالله وبمعاني كتابه. إيمان حي يبعث الروح في القلوب فتصدح به الجوارح وتتحرك به الألسنة. إيمان يهز صاحبه هزا للقيام وعدم الرضى بالقعود مع القاعدين. إيمان يرتفع بصاحبه إلى الملكوت الأعلى وليس زخما معرفيا فحسب يحشو العقول ولا يعرف طريقه إلى القلوب.
نحتاج وقفة مراجعة لإعادة بناء معتقداتنا على أسس صحيحة يتصالح فيها العلم مع العمل. فلا قيمة لعلم لم ينتفع به صاحبه وينفع به من حوله. فما تحمله عقولنا عليه أن ينعكس على أحوالنا رفعة ورقيا. يقول الحسن البصري “الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل” فلا خير في إيمان لم ينتقل بصاحبه من دنيا الناس إلى ملكوت السماوات، ولا خير في إيمان لم يتذوق الناس حلاوته في أعمال صاحبهم وأدائه.
نحتاج وقفة مراجعة لأدائنا الدعوي، فما نتعلمه ويشع من أنوار كتاب الله علينا، لابد أن يترجم في عطاء غير مسبوق وعمل دؤوب لنصرة الله ورسوله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر بأعلى درجات الإحسان. فما بلغ الإسلام ما بلغ في عهده الأول إلا بتفاني رجال فهموا روح القرآن وهبوا لنشره بأفعالهم قبل أقوالهم. رجال صدقوا(بتشديد الدال) ما تلوه من كلام الله وصدقوا في تبليغه فكان أن غير الله بهم معالم الدنيا وحدودها.
نحتاج وقفة مراجعة لخطابنا الدعوي فالحاجة اليوم ماسة لخطاب يزاوج بين الإيمان والمعرفة، بين النظرية والتطبيق. خطاب يقدم كلام الله وآياته بصورة تلامس القلوب والعقول، بصورة تبعث الروح في كلام رب العزة فتتجلى الآيات لمتلقيها حية تبعث الإيمان في القلب، فهذا جندب بن عبد الله يقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا)1. فكتاب الله ليس كلاما يقرأ فقط بل هو كلام يحيي القلوب ويبعث فيها الروح من جديد لتؤمن إن لم تكن آمنت أو لتزداد إيمانا مع إيمانها.
نحتاج إلى خطاب يقدم (إنني أنا الله لا اله إلا أنا) على أنها حياة للأرواح والأجساد وليست كلمات ترددها الألسن ولا تعيها القلوب. فلا إله إلا الله تشربها الرعيل الأول فتغيروا وغيروا العالم من حولهم لأنهم أكملوا الآية ولم يقتصروا على جزئها الأول (إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)2، فارتفعوا حين ملكت لا إله إلا الله قلوبهم وازدادوا رفعة بإقامتها.
فما أحوجنا اليوم أن نعي “لا اله إلا الله” كما وعوها وأن نتذوق كلام الله كما تذوقوه لنتحول كما تحولوا، تحولا يرقى بنا وبمن حولنا. فما نزل القرآن إلا ليتحول لتجسيد عملي في حياتنا وأعمالنا وأدائنا فهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم كما تصفه زوجه عائشة الصديقة ومن أعرف بأحوال الرجل من زوجته، تقول عنه رضي الله عنها كان قرآنا يمشي على الأرض فأعطانا عليه السلام الدرس بتطبيق عملي حي لنفهم حقيقة ديننا الذي يجمع بين الإسلام والايمان، بين الفهم والتنزيل.
———
1 – رواه ابن ماجه (61)، وصححه الألباني في “صحيح سنن ابن ماجه” (1 / 37 – 38).
2 – سورة طه الآية 14