الموس يكتب: واقع ومستقبل الأسرة المغربية.. تأملات في بعض فقرات الخطاب الملكي
استمعت بإمعان لخطاب العرش لسنة 2022، وشد انتباهي العبارات القوية التي عبر فيها أمير المؤمنين حفظه الله عن وضعية الأسرة المغربية ومكانة المرأة والطفل فيها، والحاجة إلى تدارك سوء تطبيق بعض مقتضيات مدونة الأسرة، قصد تحقيق مقاصدها النبيلة في إطار عقيدة الأمة وثوابتها.
وقد أحببت أن أتفاعل مع هذه الجزئية من الخطاب الملكي بحكم تخصصي واهتماماتي فأقول:
أولا: مدونة الأسرة وضعت للمسلمين وهي رحمة لهم ولغيرهم
وصف الله تعالى الرسالة الخاتمة بأنها جاءت لتُزيل الآصار والأغلال التي لحقت بالأمم السابقة، وقد تحققت هذه الرحمة طيلة الحكم الإسلامي، واستفاد منها غير المسلمين أيضا الذين كانوا يحرصون على فض نزاعهم ونوازلهم استنادا إلى الشريعة الغراء، وهو ما خلده القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].
ومنحت الشريعة لغير المسلمين من اليهود والنصارى ممن ينضوون تحت الوطن الإسلامي إمكانية التقاضي استنادا إلى شريعتهم فيما له علاقة بالأسرة والأحوال الشخصية، وهو ما تُرجم في المغرب من خلال التنصيص على أن الأقلية اليهودية المغربية تتحاكم في أحوالها الأسرية إلى قانون الأحوال العبري. جاء في المادة الثانية من مدونة الأسرة: ” أما اليهود المغاربة فتسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية”.
إن الأحوال الشخصية ترتبط في كثير من الدول بدين الأغلبية، وإن الأقلية اليهودية المغربية تعمل فيه مقتضى شريعتها ولا أحد يتدخل فيها ولا في مدى موافقة قانونهم أو مخالفته للمواثيق الدولية. لكن للأسف نجد بعض المنتسبين للوطن يطعنون في المدونة ويصرون على أن تخضع في تعديلاتها للمواثيق الدولية ولو خالفت قطعيات الدين، وهو أمر لا يقبل من حيث أحقية الشعوب بالتحاكم إلى ما ترتضيه في دينها. ونرى أنّ من صرّح بخروجه عن الإسلام، وقال إنه يقيم علاقاته الأسرية وما يتعلق بها وفق قناعته، فما عليه إلا أن يكون صريحا في ذلك ويُمكن للدولة أن تنظر في هذه الخصوصية وبكل ما يترتب عليها من منع التزوج من المسلمين والتوارث والدفن في مقابرهم وغيرها…
ثانيا: الأسرة لبنة من زوج وزوجة وأبناء
من المسائل القوية التي أكد عليها الخطاب الملكي أنه ربط الأٍسرة بمكوناتها الطبيعية التي تعارف عليها الناس وجاءت الشريعة بحفظها، أي أنها تتألف من رجل وامرأة وأبناء، وهو ما أصلت له المدونة حين عرفت الزواج أنه:” ميثاق تراض وترابط بين رجل وامرأة غايته الإحصان وإقامة أسرة مستقرة تحت رعاية الزوجين” . وأكد أمير المؤمنين على هذه المعاني حين قال: “والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال.”
فما أحوج مؤسساتنا التربوية والإعلامية إلى التقاط هذه الإشارات الملكية، والاحتياط من المقاربات الوافدة والغريبة عن هويتنا، والتي تسعى لفرض نماذج أسرية متناقضة مع قيمنا ومع الفطرة السليمة ومقاصد إقامة الأسرة.
ثالثا: روح الشريعة والتكامل بين الزوجين
يظهر في ثنايا الخطاب الملكي التأكيد على ما يجب أن يصحب النص القانوني للمدونة من الارتقاء لمقاصدها النبيلة والتشبع بالقيم المنبثة فيها، ومن ذلك أن الأسرة تقوم على التكامل والمكارمة وليس على الشح والمكايسة، وأن المدونة ليست للمرأة ضد الرجل ولا للطفل في مقابل الزوجين ولا للزوج في مواجهة الزوجة. إنها مدونة تسعى لحفظ استقرار الأسرة، ولضمان التنشئة السليمة للأبناء في أجواء المودة والرحمة، ولضمان حقوقهم عند انفراط عقد الزوجية لا قدر الله.
رابعا: المدونة اجتهاد في إطار الشريعة وهي قابلة للمراجعة
من المسائل التي أكد عليها الخطاب الملكي أن المدونة وإن كانت اجتهادا جريئا وكسبا كبيرا للأسرة المغربية إلا أنها عمل بشري قد تشوبه بعض النقائص، وقد يحول سوء التطبيق أو غياب اللوجستيك اللازم دون تحقيق مقاصده النبيلة. ومن ثم فهي كأي عمل بشري قابلة للمراجعة والنظر المتجدد في إطار نصوص الشرع وما يمليه الاجتهاد المتبصر المبني على مقاصد الشريعة. ولذلك وجه الخطاب الملكي النظر إلى هذه المآخذ مع التوصية بمراعاة النصوص القطعية في دلالتها والتي لا يجرؤ أي مسلم ولو كان هو السلطان في تجاوزها: ” كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك. وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.” إن الاجتهاد المطلوب هو الذي يتم: ” في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح ، والتشاور والحوار ، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.
خامسا: أهمية المواكبة وتوفير المؤسسات واللوجستيك اللازم
من الإشارات التي ينبغي أن تلتقطها المؤسسات الرسمية من الخطاب الملكي أن فعالية المدونة في حفظ الاستقرار الأٍسري رهين بمدى توفير الآليات اللازمة لذلك، من محاكم خاصة بالأٍسرة، وفضاءات مناسبة للصلح، وكفاية من القضاة وممن يتولون المساعدة الاجتماعية. إن كثيرا من أسباب القصور التي صاحبت تنزيل المدونة تعود في الأساس إلى ضعف توفير الإمكانيات اللازمة للقيام بمهام الصلح والوساطة الأسرية: ” وفي نفس الإطار، ندعو للعمل على تعميم محاكم الأسرة، على كل المناطق، وتمكينها من الموارد البشرية المؤهلة، ومن الوسائل المادية، الكفيلة بأداء مهامها على الوجه المطلوب.”
ومن جهة أخرى فإن ما منحته المدونة للقضاة من صلاحيات في سلطتهم التقديرية حين تنزيل بنود المدونة يحتاج إلى وعي خاص بمقاصده وبما ينبغي أن يراعى عند إعماله لئلا يصبح سيفا مسلطا على أحد أطراف الأسرة وخاصة الرجل، وقد أبانت تجربة التطبيق: ” أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها. ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب وسيكولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء. لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية.”
سادسا: أهمية التوعية والشرح والتبسيط لعامة الناس
من المسائل التي تحول دون تحقيق المقاصد النبيلة لمدونة الأسرة سوء الفهم الذي رافق الإعلان عنها، حيث اعتقد البعض أنها جاءت لتمكين المرأة من ثروة الرجل، أو أنها جاءت لتقييد الزوجين ومتابعتهما فيما له علاقة بالأبناء، أو أنها ضد مقتضيات الشريعة …. ولذلك فالحاجة ماسة إلى ضرورة التعريف السليم بمقتصايتها، وأنها مستمدة من الشريعة الغراء، وأنها تروم إنصاف كل الأطراف، وقد ساهم في إعدادها علماء مشهود لهم بالفضل والنزاهة. ومن ثم فمقتضياتها من الشرع اللازم الانقياد له وحسن الاستجابة لمضامينه، وهو من تقييد المباح الذي للدولة المسلمة أن تلزم به دفعا للضرر وجلبا للمصالح وسدا لذريعة الفساد وضياع الحقوق.
سابعا: بعض مجلات المراجعة والبحث لعلمي الهادئ من أهله
إن المدونة في مجملها لازالت صالحة لتحقيق مقاصدها النبيلة، وهناك بعض المواد التي قد تحتاج إلى بحث هادئ بين الخبراء والعلماء عساهم يجودونها بما يحقق مصلحة الأسرة والمرأة والطفل ومن ذلك:
- النيابة الشرعية عن الطفل، فالمدونة جعلتها مشتركة بين الأب والأم على تفاوت في التقديم والتأخير، ولعل المطلوب توحيد الفهم والتطبيق السليم.
- تزويج القاصر، وقد سال مداد كثير حول المسألة، وأعتقد أنه لا أحد يرغب في استمرار تزويج من هم دون سن الأهلية وحرمانهم من الحق الطبيعي في التمدرس، والحصول على المعارف والمهارات اللازمة للاستقرار العائلي. وقد أحسنت المدونة حين وحّدت سن أهلية الزواج في ثمان عشرة سنة شمسية. وإن الابقاء على الاستثناء وترك صلاحية تنزيله والإذن بتزويج من هم دونه للقضاة حاجة مجتمعية وليست شرعية، تفرضه مجموعة من الأحوال المادية والاقتصادية، والأعراف الاجتماعية التي ينبغي أن يُبذل جهد من طرف الدولة قصد تجاوزها، مع إمكانية الوصول إلى اجتهاد يضيق من دائرة السلطة التقديرية للقضاة في منح الإذن بالتزويج.
- التطليق للشقاق: أعتقد أن التطليق للشقاق معضلة كبيرة في واقع الأسرة المغربية، وقد استحوذ على جل أشكال الفرقة وهو يحتاج إلى نظر متبصر قصد التقليل منه، خاصة وأن الكثير منه ليس شقاقا وإنما رغبة في الفرقة من طرف الزوج (الطلاق) أو من طرف الزوجة (الخلع). كما أن مسطرة الصلح قد تحتاج إلى مراجعة لأنها لا تتم بالمواصفات التي تحقق الغاية المرجوة منها.
- التعدد: قيدت مدونة الأسرة منح الإذن بالتعدد، وهي قيود تنطلق من حرص المشرع على استقرار الأسرة، وعلى ضمان حقوق الزوجة الأولى والثانية والأبناء، وإن نسبة من يلجؤون إليه رسميا قليلة، في مقابل بعض حالات التعدد غير الموثق، ولذلك نرى الحاجة إلى تبسيط المسطرة حين تكون المبررات موضوعية، وفي ذلك حفظ للمرأة والأسرة وصرف عن التحايل أو اللجوء للزواج غير الموثق.
- دعوى سماع الزوجية: لقد انتهت المهلة المحددة، ووقع خلاف بين القضاة في المسألة، فمنهم من رأى أن النص صريح في عدم سماعها، لكن منهم من أعمل روح النص، وأن الشارع متشوف لحصول الزوجية، وأنه وإن وقعت أخطاء أو تحايل على النص (تزويج قاصر أو التعدد الذي لم يقبل من طرف القضاء) فإن التوثيق اللاحق أولى من الرفض وتعريض طرفي العقد غير الموثق وما نتج عنه لمآسي أخرى. ومن ثم ينبغي النظر المتجدد في المسألة بما يحقق مقصد التوثيق والحث على الالتزام به، مع الحرص على تيسير الزواج وتوفير إمكانيات توثيقه وتجاوز بعض العقبات من مثل إيجاد مداومة لإعطاء الاذن بتوثيق الزواج على مستوى الجهات خاصة خلال عطلة الصيف، وتبسيط مسطرة رخصة العاملين في القوات المسلحة ومصالح الأمن والدرك وغيرها من المؤسسات التي قد يكون تأخرها سببا في الاكتفاء بالزواج العرفي في انتظار وصول الرخصة.
هذه ملاحظات أولية، نأمل من أهل العلم والخبرة أن ينظروا فيها، وأن تُعقد لها ندوات علمية يدعى لها أهل الاختصاص قصد الإسهام في حفظ الأسرة المغربية واستقرارها.