نشر الأمن والطمأنينة من منهج الأنبياء عليهم السلام – يوسف الحزيمري
إن من منهج الأنبياء عليهم السلام نشر الأمن والطمأنينة في نفوس المؤمنين، وهذا هو القصد من بعثتهم، وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، التي يتحقق بهما الأمن والطمأنينة لهذا شرط إبراهيم الخليل عليه السلام في دعوته بأن يجعل البلد الحرام آمنا ويرزق أهله من الثمرات بالإيمان بالله واليوم الآخر، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126].
وهذا شعيب عليه السلام يطمأن موسى عليه السلام، ويأمنه من خوفه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] وهذا القول من الشيخ الكبير لموسى، صادف مكانه، وطابق مقتضاه، فقد كان موسى- عليه السلام- أحوج ما يكون في ذلك الوقت إلى نعمة الأمان والاطمئنان، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب[1].
وهكذا تتكرر قصص الأنبياء مع أقوامهم بالدعوة إلى النجاة من الخوف والقلق وذلك عن طريق التقرير بأن الله واحد لا شريك له، وهو المستحق للعبادة قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ومن معاني “الألوهية”، أنها اعتباد الخلق[2]، وبتحقيق العبودية الخالصة يكون الأمن والطمأنينة.
ومن معاني الطمأنينة في لغة العرب: السكون، والوثوقية، والاستئناس، والاستيطان بالأرض ولا يكون إلا مع الأمان، والإخباث، وكلها جاءت في كتب اللغة، فالطُّمَأْنِينَةُ: السُكُونُ، وأطْمَأَنَّ: سَكَنَ[3] واطمأن إليه: سكن إليه ووثق به[4]. اطْمأَنّ الرّجل، واطمأنّ قَلْبُهُ، واطمأنَّتْ نَفْسُه إذا سَكَنَ واستأنس[5].
وَقيل فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: { ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الْفجْر: 27) ، هِيَ الَّتِي قد اطمأنت بِالْإِيمَان وأخبتت لربّها. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَاكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} (الْبَقَرَة: 260) ، أَي: ليسكن إِلَى المعاينة بعد الْإِيمَان بِالْغَيْبِ. والاسمُ: الطُّمأنينة[6].
أَخْبَتَ إِلَى ربه _ أَي: اطمأَنَّ إِلَيْهِ[7]، قَالَ أَبو إِسحق فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}؛ أَي إِذا سَكَنَتْ قُلُوبُكُمْ[8].
وقَولُه تَعالَى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهمُ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] ، معناهُ إذا ذُكِرَ اللهُ بوَحْدانِيِتَّه آمَنُوا به غَيْرَ شاكِّينَ. وقَوْلُه تَعَالى: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} [الإسراء: 95]، قَالَ الزّجَّاجُ: مَعْناهُ مُسْتَوْطِنِينَ الأَرْضَ[9].
قال ابن فارس:[10] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي: على وجهٍ، لأن العبد يجب عليه طاعة الله جل ثناؤه عند السراء والضراء، فإذا أطاعه عند السراء وعصاهُ عند الضراء فذاك ممن عبد الله على حرف، ألا ترى أنه قال: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، “وإِنما تجب على العبد طاعة الله عز وجل على كل حال”[11].
ومن مصادر الإطمئنان؛ الإيمان بالله عز وجل:
قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه[12] أي إن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث[13] قال القرطبي رحمه الله: “والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد”[14].
ويدخل في الإيمان بالله عز وجل أركانه المتقررة في حديث جبريل عليه السلام وهي إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم له بأن الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»[15] فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا[16]
إنّ الإيمان بالله بالنسبة لبقية الأصول والفروع كأصل الشجرة بالنسبة للسوق والفروع، فهو أصل الأصول، وقاعدة الدّين، وكلما كان حظ المرء من الإيمان بالله عظيماً كان حظه في الإسلام كبيراً.[17]
ولا يخفى على كل مسلم أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على المؤمن في الدنيا والآخرة، بل إن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على تحقق الإيمان الصحيح، فهو أجل المطالب، وأهم المقاصد، وأنبل الأهداف، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشرور والشدائد، وينال ثواب الآخرة ونعيمها المقيم وخيرها الدائم المستمر الذي لا يحول ولا يزول.قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97][18]
ومن مصادر الطمأنينة أيضا طاعة الله عز وجل فيما أمر به ونهى عنه، “فَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ يَطْمَئِنَّ إلَى الْحَلَالِ وَيَضْطَرِبُ عِنْدَ الْحَرَامِ”[19]، ولذلك كانت شعب الإيمان كثيرة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وقد ألف فيها علماء الحديث ودونوها في كتبهم تحت مسمى (شعب الإيمان)[20]، وهي في مجموعها تدل على أن الإيمان لا ينفك عن السلوك، أي عن سلوك الإنسان كله في علاقته مع ربه ونفسه والناس، ومع الكون المحيط به أيضا، إذ أن كل هذه العلاقات محكومة بأوامر تشريعية، وسنن كونية، وكلما اختلت اختل معها نظام تلك العلاقات فأدت إلى انعدام الطمأنينة.
ومن مصادر الطمأنينة شكر الله عز وجل على ما أنعم به علينا من نعم ظاهرة وباطنة، وهذا الشكر هو الذي يقيد النعم، ومن أهمها الأمن والطمأنينة، والإمداد بشتى صنوف الأطعمة، قال تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] قال ابن كثير رحمه الله: ” أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال: {فليعبدوا رب هذا البيت} أي: فليوحدوه بالعبادة، كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما، كما قال تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين} [النمل:91]، وقوله: {الذي أطعمهم من جوع} أي: هو رب البيت، وهو ” الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ” أي: تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا. ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112][21]
هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها آمن لا يخاف[22]، وقيل أيضا “والمعنى جعل أهلها مثلا لأهل مكة خاصة، أو لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، ففعلوا ما فعلوا فبدل الله بنعمتهم نقمة ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا[23]
ومن التفسير الإشاري إشارة إلى أن ” قَرْيَةً هي قرية شخص الإنسان كانَتْ آمِنَةً أي آهلة وهو الروح الإنساني مُطْمَئِنَّةً بذكر الله يَأْتِيها رِزْقُها من المواهب مِنْ كُلِّ مَكانٍ روحاني وجسماني فَكَفَرَتْ النفس الأمارة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات وَالْخَوْفِ وهو خوف الانقطاع عن الله”[24]
قال الإمام الألوسي في تفسيره: وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان،…وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم:
ثلاثة ليس لها نهايه … الأمن والصحة والكفاية
فآمنة إشارة إلى الأمن ومُطْمَئِنَّةً إلى الصحة ويَأْتِيها رِزْقُها إلخ إلى الكفاية[25]
وفي الختام نقرر حقيقة تدعونا نحن المؤمنين إلى الشعور بالأمن والطمأنينة، وهي أن “هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا”[26]
الهوامش:
- التفسير الوسيط لطنطاوي (10/ 396)
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 265)
- المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (9/ 260)
- أساس البلاغة، للزمخشري (1/ 614)
- العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (7/ 442)
- تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (13/ 253)
- تهذيب اللغة (7/ 136)
- لسان العرب، لابن منظور (13/ 268)
- المحكم والمحيط الأعظم (9/ 261)
- مجمل اللغة لابن فارس (ص: 226)
- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، نشوان بن سعيد الحميرى اليمني (3/ 1384)
- تفسير القرطبي (3/ 298)
- تفسير القرطبي (3/ 298)
- تفسير القرطبي (3/ 300)
- صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ: معرفة الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ، (1/ 37)
- شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 114)
- العقيدة في الله، عمر بن سليمان بن عبد الله الأشقر العتيبي(ص: 67)
- أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، المؤلف: نخبة من العلماء، الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية (ص: 7)
- طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية، عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبو حفص، نجم الدين النسفي (ص: 91)
- ممن ألف في ذلك: الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحَسَنِ الْحُلَيْمِيَّ ” كِتَابِ الْمِنْهَاجِ الْمُصَنَّفِ فِي شُعَبِ الْإِيَمانِ”، وأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، مختصر شعب الإيمان للبيهقي ،المؤلف: القزويني الشافعيّ (المتوفى: 699ه)
- تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 492)
- تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 607)
- روح البيان، لحقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي , المولى أبو الفداء (5/ 88)
- تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان (4/ 319)
- تفسير الألوسي = روح المعاني (7/ 476)
- في ظلال القرآن (5/ 2673)