مكانة المعلم في الإسلام
قال تعالى : “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ” [الزمر: 9]
وقال صلى الله عليه وسلم متحدثا عن نفسه : ( إِن الله لم يبعثني مُعْنِتا ولا مُتَعَنِّتا ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّرا).
يحتفل العالم سنويا باليوم العالمي للمعلم في الخامس من أكتوبر من كل سنة ( منذ 1994)، وقد أحببت أن أقف بهذه المناسبة حول بعض ما يتعلق بهذه الرسالة النبيلة فأقول وبالله التوفيق:
أولا: العلم والتربية أساس كل حضارة وعمران: عباد الله كلنا نردد مقولة “العلم نور” وهي المقولة لم تأتِ من عبث، فالعلم هو النور الذي ينير الدرب أمام البشرية لتسير في طريق التقدم والإزدهار، وهو النور الذي ينير عقل البشر ليخرجوا من ظلمات الجهل، فلولا العلم لبقيت حياة الإنسان بدائية قريبة من عيش الحيوانات العجماوات، وإنه لا يمكن لأمة أن ترتقي إذا لم يكن عندها تعليم راق، وإذا لم تستمر في ذلك استثمارا حقيقيا .
لما كان العلم منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أشار القرآن الكريم إلى مكانة المعلمين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلى دورهم في نقل هذه الرسالة وتعليمها إلى الناس أجمعين من خلال منهجين: منهجٌ قائمٌ على التعليم، ومنهجٌ آخرٌ قائمٌ على التزكية. يقول ربنا سبحانه وتعالى:”رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ” سورة البقرة (129). نلاحظ في هذه الآية أن الله تعالى قدّم التعليم على التزكية. وفي آية أخرى قدّم الله سبحانه وتعالى التزكية على التعليم في معرض امتنانه على هذه الأمة بأن أرسل لهم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: ” لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” سورة آل عمران (164).
التزكية هي: منهجُ سلوكٍ نفسي وخُلقي على كل إنسان أن يتحلى به سواء كان معلماً أو متعلماً. ومهمة المُسلّكين، والمربين، والأنبياء، والمعلمين، والمدرّسين الجمع بين الأسلوبين معاً، أي أن يكونوا معلمين ومزكّين في الوقت نفسه؛ بأن يحرصوا على نقل المعلومة إلى طلابهم، والارتقاء بهم من مرحلة الجهل إلى مرحلة العلم، ثم الانتقال بسلوك الطلاب إلى مستوىً أرقى مما كانوا عليه فيما مضى, وهذا يُشعِر كل المربين والمعلمين بالمسؤولية العظمى والأمانة الكبرى التي حمّلهم إياها ربنا سبحانه وتعالى.
ثانيا: المعلم والمربي الحكيم هو أساس التعليم والتربية
إذا كان للتعليم تلك المكانة والمزية، فإنه لا يكون هناك تعليم جيد دون وجود معلمين مخلصين ومؤهلين. فالمعلم هو أحد عديد العوامل التي لنجاح منظومة التربية والتكوين، فهو يساعد التلاميذ على التفكير النقدي، والتعامل مع المعلومة، ويعلمهم القيم والأخلاق، ويهذّب طباعهم ويجعلهم أكثر إيجابية في هذه الحياة، وبالتالي فإنه يخلق مجتمعاً واعياً ومواكبا لكلّ ما هو جديد..
إن المعلم من أسمى وأنبل الأشخاص في هذا العالم، لدوره العظيم الذي يقوم به في المجتمع، بحيث إنّ دوره لا يقلّ أبداً عن دور المهنيين الآخرين كالأطباء، والمهندسين، والصيادلة وغيرهم، بل على العكس فإنّه لولا المعلم لما كانت المعرفة لتصل إليهم حتى يصبحوا على ما هم عليه الآن.
ثالثا: التلميذ وحصول بركة التعلم والتتلمذ.
إن العلاقة بين المعلم والمتعلم يجب أن تقوم على على الحب والوفاء، وعلى التكريم والتوقير .
فالمعلم والد يؤدب بالحسنى، ويهذب بالحكمة وقد يقسو حينما تجب القسوة، ولكنها قسوة من يريد الخير لابنه وتلميذه والمتعلم ابن مطيع بار يرى في إجلاله لأستاذه من مظاهر ألأدب وحسن الخلق .
وكان التلميذ في سالف أزماننا يعتبر نفسه عجينة بين يديّ أستاذه المحب له الحريص عليه وكان الطالب يحافظ على وفائه لأستاذه حتى بعد تخرجه أو انقطاعه عن حلقة التعلم أو بلوغه مرتبة في المجتمع.
ومن نماذج سلفنا الصالح في توقيرهم للمعلم واحترامهم له، روى الشعبي رحمه الله قال : صلى زيد بن ثابت على جنازة ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذه بركابه فقال له زيد خلّ عنه يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بن عباس هكذا يفعل بالعلماء والكبراء .
وقيل للشافعي رحمه الله في تواضعه عن طلبه للعلم فقال :
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها * * * ولن تكرم النفس التي لا تهينها .
وقال الشافعي رحمه الله كنت أتصفح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحا رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها .
وقال الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له .
وقال بعض السلف: لا ينال العلم ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره .
عباد الله إن من علمك حرفا واحدا مما تحتاج إليه في الدين أبوك في الدين ….
وحكى أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي ليعلمه العلم والأدب فرآه يوما يتوضأ ويغسل رجليه وابن الخليفة يصب الماء فعاتب الأصمعي في ذلك فقال إنما بعثته إليك لتعلمه العلم وتؤدبه فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه ويغسل بالأخرى رجلك .
قال علي رضي الله عنه: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشير عنده بيدك ولا تعمدن بعينيك غيره ولا تسار في مجلسه ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء .
وكان بعضهم إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه عني .
رابعا: دورنا في إعادة الاعتبار لرسالة المعلم والمربي.
عباد الله إن أسباب قلة توقير المعلم واحترامه وتقديره، متعددة نذكر بعضها قصد التنبيه فقط:
– عدم غرس الآباء والأمهات في قلوب أولادهم احترام المعلم وتقديره وتوقيره أو غفلتهم عن ذلك، بل أحيانا يقوم بعض الآباء بما يناقض تحبيب المعلم لأبنائه، حيث يعمد بعض الآباء إلى التنقيص من المعلم أمام أبنائهم، أو إلى حكاية بعض النكت والطراف التي لا تليق بمقام المعلم …
– قيام بعض التلاميذ بسلوكيات منحرفة اتجاه معلميهم، وتلقفها من طرف وسائل الإعلام ونشرها بين الناس (من يعتدي على المعلم بضرب ولكم وإراقة دماء فضلاً عن كلام بذيء وأسلوب جارح).
– تقصير بعض المعلمين في القيام بمهمتهم على أحين الوجوه، وارتكابهم ما لا يليق بمقامهم من المخالفات والمعاصي.
– مكانة المعلم والمربي في السلم التراتبي للوظائف والمهن .
قال الله تعالى: “وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ” [آل عمران: 79].
الربانيين جمع رباني، واختلف النحاة في هذه النسبة، فقال قوم : هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم عن الله والمتبع لشرع الله، وقال قوم الرباني منسوب إلى الرُّبان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وفي جميع الحالات فإن الآية تدعو من انتصب للتربية والتعليم أن يستشعر ضخامة المهمة، وأن يتصف بأوصاف تجعله أهلا لها.
الدكتور الحسين الموس