كيف نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف؟
ها هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وها تاريخ مولده قد أقبل علينا فهلا يممنا وجوهنا نحوه نستضيء بنوره، ونهتدي بهداه، ونسترشد برشده، فنحيي سيرته وسيرة سلفنا الصالح حتى نقول للعالم كله أن أمة الإسلام اليوم لا تقل أثراً عنها بالأمس ذلك الأمس الذي كانت فيه أمتنا منارة للعالم، ومرشدة له، يخطب ودها العدو قبل الصديق.
لم يكن ميلاده ميلاد فرد عاد ولكنه ميلاد أمة هي خير أمة أخرجت للناس بتعاليم الوحي الإلهي وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم – الذي حمل أحسن الحديث تبياناً لكل شيء، ميلاد من يهدي للتي هي أقوم، وميلاد من بعث متمماً لمكارم الأخلاق، وميلاد من أرسل هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إن الاحتفال بهذه المناسبة مطلوب ولكن بالصورة التي تليق بجلالها ويرضاها الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – فنجعل من سيرته نبراساً يقتدي به شباب الأمة في مواجهة التحديات الخطيرة التي تهدد مستقبله، بل إن الاحتفال بهذه الذكرى أصبح أكثر إلحاحاً من ذي قبل خاصة بعد أن سيطرت على حياتنا أعياد كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، علا وقعها وصداها في نفوس الناس حتى فاقت الاحتفالات الدينية الواجبة في شريعة الإسلام .
أن ما يحدث من الاكتفاء بأن يكون يوم مولده – صلى الله عليه وسلم – عطلة رسمية ولعبة في أيدي أطفالنا وقطعة حلوى، بعيد كل البعد عما يريده لنا الإسلام فما ذاك إلا لهو لا طائل منه، إنما يدعونا الإسلام في هذه المناسبة أن نتبادل القول الصالح ونتسابق إلى العمل المثمر، فليكن احتفالنا بمولده – صلى الله عليه وسلم – إن كان قولاً فليكن علماً نافعاً ينتفع به الناس وإن كان عملاً فليكن عملاً يمسح دموع البؤساء ويفتح أبواب الرجاء.
في الوقت نفسه يجف أن نحذر من أن تتحول احتفالاتنا بهذه المناسبة إلى طقوس غريبة تسيطر عليها الانفعالات وتتسلل إليها البدع والخرافات بصورة لا تليق بخير البرية – صلى الله عليه وسلم – فتفرغ المناسبة العظيمة من محتواها وتحول دون التأسي بسيرة صاحب الذكرى العطرة –صلى الله عليه وسلم – الحافلة بالجهاد والبذل والعطاء فلم تثن له عزيمة ولم تفتر له همة.
فرحة الموحدين : (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) وإن فرحة الموحدين بمولد النبي –صلب الله عليه وسلم-ليس معناها أنهم تناسوه فلم يذكروه إلا في هذه الأيام، كلا فلم ولن ننساه أبداً ما حيينا فكيف ننساه وفي تشهد كل صلاةً نذكره فنقول (نشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله)، وكيف ننساه ومآذن الإسلام في كل صلاة بل في كل لحظة تذكره لأن الله عز وجل فاوت التوقيت فبينما هنا الساعة الواحدة ظهراً مثلاً في بقاع أخري الواحدة وخمس دقائق وعشر دقائق وعشرين ساعة، هنا مقدمة وهناك مؤخرة المهم أن الأذان لا ينقطع.
فنحن لن ننساه ما حيينا لأنه –صلى الله عليه سلم –هو الذي أحيا الله علي يديه أمة هي خير أمة أخرجت للناس فلا ريب كلما أشرق ربيع الأول-شهر المولد-أن يتنافس فيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ليتدارسوا سيرته-صلى الله عليه وسلم –العطرة وآدابه الفاضلة وأخلاقه الراقية التي أخرج الناس بها من الظلمات إلى النور.
وعن خير وسيلة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف نقول : إن خير وسيلة للاحتفال بهذه المناسبة هي استخلاص الدروس من ميلاده وحياته –صلي الله عليه وسلم – من أجل الاستفادة بها في مسيرة الأمة نحو نهضتها وتقدمها والحفاظ على هويتها الحضارية في ظل الظروف التي تمر بها أمتنا الإسلامية وما يحيط بها من تطورات تهدد مصالحها وما يراد أن يفرض عليها من خارجها من إصلاحات ترينا مدى الأهمية البالغة لاستخلاص دروس غالية من هذه الذكرى العطرة وتوظيفها في المسيرة الحاضرة والمستقبلية لهذه الأمة.
فإذا كنا مأمورين طبقاً لقول الحق تبارك وتعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب : 21 )) بأن نقتدي بصاحب الذكرى – عليه الصلاة والسلام – فإننا نود أن نشير في هذا الصدد إلى بعض الدروس الغالية في السنة النبوية التي تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت مضى في مسيرتها المعاصرة لمواجهة ما يراد فرضه عليها من وصفات جاهزة للإصلاح.
وإن ما يسترعي الانتباه في هذا الصدد ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، فقد أعلن وثيقة بالغة الأهمية عرفت بصحيفة المدينة ،قرر فيها منذ أربعة عشر قرناً من الزمان حقوق الإنسان الأساسية بما تتضمنه من حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة الأنفس والأموال وتحريم الجريمة، وأقر فيها التعددية الدينية والثقافية وجعل من جميع سكان المدينة على اختلاف معتقداتهم عناصر أساسية لتكوين المجتمع الجديد الذي يتمتع فيه الجميع بنفس الحقوق والواجبات دون تمييز بين الأفراد إلا بالتقوى والعمل الصالح.
واجب المسلمين اليوم على مسلمي اليوم أن يعودوا إلى قرآنهم فيقرأونه من جديد قراءة متأنية واعية ليست خارجة من ألسنتهم لا تتجاوز حناجرهم، يقرأونه كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وكما كان يقرأه سلفنا الصالح فيأخذ بألبابهم ويستحوذ على قلوبهم وعقولهم فتخشع قلوبهم لذكر الله كما وصفهم القرآن الكريم “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ “(الأنفال : 2 )
فواجب علينا كأمة إسلامية في هذه المناسبة أن نجدد البيعة والتوبة والأوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نقتدي بصاحب الذكرى – صلى الله عليه وسلم – امتثالاً لأوامره واتباعاً لتعاليمه وسيراً على منهاجه حتى نحقق خيريتنا على ظهر الأرض لأن خيريتنا لن تتحقق إلا باتباع تعاليمه – صلى الله عليه وسلم – والاقتداء بسلوكه والتعطر بسيرته التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقتدي به فيها.
الأستاذ محمد بنشنوف