فريد الأنصاري… من الجامعة إلى الجامع
التحق الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله سنة 1987م بكلية الآداب بالمحمدية أستاذا، وفي سنة 1994 انتقل إلى جامعة السلطان مولاي إسماعيل بمكناس، ويذكر أخوه كيف أن إلحاح أبيه كان سببا في ذلك الانتقال( )، ثم انخرط في سلك الخطابة وأصبح خطيبا وواعظا، ولم يكن هذا الانتقال من الجامعة إلى الجامع يشكل انقطاعا أو قطيعة بينهما بل كان تجسيرا للهوة بينهما، فقد كان يدرس العلوم الإسلامية بالجامع كما بالجامعة.
ولا جدال أن هذه الفترة التي أمضاها رحمه الله بمكناس تعتبر من أخصب وأغنى مراحل حياته، وأكثرها عطاء وإنتاجا، وفي هذه المرحلة برزت شخصيته التربوية والدعوية ومنهجيته الإصلاحية، حيث أن الدور الدعوي الذي نهض به وأصبح من أكثر الأبعاد تميزا في شخصيته إنما تبلور خلال هذه الفترة، كما تبلورت خلالها الكثير من أطروحاته العلمية. لقد كان دخوله لعالم المسجد وللدعوة من خلاله يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته العلمية والدعوية، فإذا كانت الجامعة قد أتاحت له الاحتكاك بالأكاديميين والتواصل مع النخب والتوجهات الفكرية والانفتاح على جيل من الشباب والانخراط في الحياة العلمية بالمغرب وخارجه، فإن الجامع قد أتاح له الاحتكاك بالمجتمع في شموله والانفتاح على مختلف فئاته التى وجدت في خطابه الدعوي عمقا تربويا يربط القلوب بالله تعالى، كما وجدت عنده منهجية فقهية قادرة على الإجابة على استفتاء الجمهور المتعطش لفتوى فقهية متعمقة ومنفتحة ومتفهمة للواقع المعاصر بقدر كبير. ومن جهة أخرى استطاع فريد رحمه الله، أن يسجل حضورا فاعلا، ويكتسب معرفة لائقة به وسط العلماء الذي لم يتخرجوا من الجامعات المعاصرة، وتواصلت معرفته بهم وأخذ عنهم.
لقد اقتنع فريد رحمه الله تعالى كثيرا بالدور الذي أصبح يؤديه بالجامع وبين مختلف الفئات، لدرجة أصبح يكثر من تواجده بالمسجد للقيام بدوره الدعوي، بل كان يتحامل على نفسه ويحضر ليربي ويعظ ويفتي رغم جسده العليل.
لقد أدرك- رحمه الله – قيمه هذا الدور الدعوي وفاعليته والحاجة إليه، ورغم أنه هجر التنظيمات الإسلامية بمفهومها الضيق، فإن كثيرا من أبنائها وقادتها استبشر خيرا بهذه الهجرة عندما أخذت تتضح لهم آثار وثمار حضوره الدعوي من خلال شدة تأثير دروسه التربوية وخطبه الدعوية في المجتمع.
ومع أن فريد رحمه الله تعالى جاء من الجامعة إلى الجامع، ودخل إليه خطيبا وداعية مربيا، ورغم ما يوجد بين الجامع والجامعة من اختلافات كبيرة في طبيعة الهوية وطبيعة الأنظمة والقوانين، إلى الفروقات الأساسية في طبيعة الجمهور الخاص بكل منهما، مع كل ذلك استطاع فريد رحمه الله أن يندمج ويتكيف مع وظيفته الدعوية بالجامع، بل استطاع أن يدمج بين الجامع والجامعة، فنقل الكثير من العلوم لكي يتم تدريسها بالجامع( )، وقد جذب – رحمه الله تعالى- إلى الحلقات العلمية والتربوية الطلبة الجامعيين، الذين عرف كيف يخاطبهم ويتواصل معهم، كما جذب الكثير من أصحاب الحرف والتجار إلى مدرجات الجامعة، ليزاحموا الطلبة في المدرجات وللنهل من علمه خصوصا فيما يتعلق بفقه البيوع، كما كان يحاول نقل الجو التربوي للمسجد إلى الجامعة ويضفي طابعا تربويا على تدريسه.
إن فريد رحمه الله تعالى خلال الفترة التي قضاها في التدريس والبحث العلمي التخصصي لم تدفعه إلى الانكفاء والانغلاق على الناس والمجتمع، أو إلى الترفع والتعالي النفسي والاجتماعي، أو إلى التكلف والتقيد بلغة اصطلاحية وتخصصية، وهي الحالات التي غالبا ما تصاحب الأكاديميين، فقد تمكن من حفظ علاقته بأساتذة الجامعات وبالعلماء من جهة، وحفظ علاقته بعامة الناس من جهة أخرى، عن طريق الحلقات العلمية والخطب المنبرية والدروس التربوية بالمساجد التي لم يفارقها حتى آخر عمره.
لذلك يعتبر الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله من أكثر العلماء نجاحا في تجسير العلاقة بين الجامع والجامعة، وبين الأكاديميين والعلماء. وهذا الجانب أكثر ما يلفت الاهتمام عن الدور العلمي والدعوي للدكتور فريد رحمه الله، كما أنه الجانب الذي يلفت الاهتمام لطبيعة التكوينات العلمية والفكرية والثقافية التي مكنت الأنصاري من النهوض بهذا الدور، والذي تكمن أهميته وقيمته في تحريك العلوم الشرعية بين الجامع والجامعة، فقد استطاع الأنصاري بشخصيته المعنوية وقدرته العلمية أن يقدم صورة نموذجية للعالم والشيخ المربي، صورة مغايرة تماما لتلك الصورة النمطية التي غالبا ما يقع فيها الأكاديميون من جهة، والعلماء الدعاة من جهة أخرى. هي الصورة التي كان فريد رحمه الله مدركا لها وساعيا لتغييرها، بعد أن كانت سببا في تكريس قطيعة وانفصال بين ما يدرس بالجامعات وبين المجتمع وحاجاته الدعوية والتربوية، فكان له الفضل في بناء تواصل وانفتاح بين الجامعة وأهلها والمجتمع وأهله، فكان الجامع منارة لهذا التواصل.
بقلم ذ عبد المجيد الأحمدي