عبد العزيز الإدريسي يكتب: قيم المقاومة

تَابع العالَم بأسره معركة طوفان الأقصى التي تُعتبر محطة وجولة من جولات الصراع بين الكيان الصهيوني الاستعمَاري الإحلالي المدعوم من الغرب الإمبريالي ماديا ومعنويا، وبين المقاومة الفِلسطيينية بكل فصائلها وحاضنتها الشعبية وأمتها وأحرار العالم.

ومن بين أهم مظاهر الصراع وتجلياته ما ارتبط بمَنظومة القيم التي جسَّدها كل من جُنود جيش المحتل الصهيوني وقادته، وعناصر فصائل المقاومة جُندا وقادة،في مشاهد سجلتها الكاميرات ووثقتها الشهادات، وستبقى شاهدة على نُبل المقاوم الفلسطيني وآدميته، و خِسَّة وانحطاط ودناءة المقاتل الصهيوني، حيث أدت تلكم المشاهدوالمقاطع إلى إسقاط الدِّعاية السوداء التي روجتها وسائل الإعلام العبرية الغربية، وتغيير الصورة النمطية للمجاهد والمقاوم ضد الاحتلال والظلم.

ولمعرفة نُبل المقاوم المسلم وأصالة هذا النُّبل والسُّمو نرجع بالذَّاكرة إلى قصة إسلام الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي( 1913-2012) بسبب تأثره بأخلاق المسلمين في الجزائر، فعندما كان أسيرا لدى القوات النازية في مدينة الجلفةبالجزائرعام 1941، حيثُ تحدَّى مجموعة من العسكر الجزائريين، الأوامر العسكرية النازية، بعد اندلاع انتفاضة وتمرد واحتجاج السجناء الفرنسيين في ذلك المعتقل، ورفضوا إطلاق النار على هؤلاء الأسرَى العُزَّل؛ فأثر ذلك على رؤية وفكر الشَّاب جارودي الرافض للنازية من جهة، وتصحيح التَّمثل الذي صورته وصنعته فرنساحول سكان المستعمرات المسلمة، التي طالما وصفتهمبالهمجية والوحشية.

روجي جارودي رحمه الله تعالىأعلن إسلامه سنة 1982م بسبب ذلك الموقف الذي ظل راسخا في ذاكرته، وفي السنة نفسهاأصدر بيَانا مطولا ومدويا وصادما للسردية الصهيونية بعد مجازر “صبرا وشاتيلا”أعلن فيه رفضه القاطع للاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، وذلك على صفحة كاملة  بجريدة”اللوموند” الفرنسية بتاريخ 17 يونيو 1982، موجهاً نقداً لاذعاً لإسرائيل والصهيونية لأنها تعمل على: “تغذية غرور الغطرسة والهوس المزمن الذي تزكيه أمريكا، وكانت هذه المقالة بمثابة الطلقة الأولى التي خرجت من حنجرتي لتعلن بداية حرب ضروس ضدي”، ليصبح الفيلسوف الكبير منبوذا ومحاصرا ، ومرفوضا أكثر خصوصا بعد إصدارهكتابه الخطير “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائلية”، واتهامه بالتهمة الجاهزة معاداة السامية ومحاكمته على ذلك.

هذا المشهد وهذه الواقعة هي واحدة من آلاف الوقائع على مر التّاريخ الذي تشهد بسمو منظومة القيم الإسلامية وكونيتهاونُبلها في السلم والحرب، مع الذات أو مع الآخر بغض النظر عن كثير من الاعتبارات والاكراهات.

نعودُ إلى مشهدية الطوفان منذ انطلاقه يوم السّبت 7 أكتوبر 2023 وتداعياته كيف أن عَناصر المقاومة في كتائب  الشهيد عز الدين القسَّام وباقي الفصائل الأخرى، قد تحلَّوْا بقيم الرحمة والرفق وأخلاق الحرب التي تربوا عليها وتشربوها من آي الذكر الحكيم وسنة وسيرة النبي الكريم عليه الصلاةوالسلام، رغم وحشية المحتل الغاصب ودمويته، فعندما اقتحموا المواقع العسكرية الصهيونية في غلاف غزة لم يقتلوا طفلا أو شيخا أو أمرأةمنَ المدنين، وإنما اشتَبكوا مع الجُنود فأوغلوا فيهم قَتلا وأسرا، ومَا روجت له الدِّعاية السَّوداء في الغرب من وحشية مُقاتلي القسَّام سُرعان ما تهاوت أمَام الحقائق التي وثقتها الكاميرات العامة والخاصة، وشهادة الشهود التي تحاول الرقابة العسكرية الصهونية حَذفها ومحاصرتها، ولكن الحقأبلج والباطل لجلجل.

إن المقاومة الفلسطينية عبر مراحلها المتعاقبة انطلقت كباقي الحركات التحررية ضد القهر والطغيان والظلم والاحتلال من قيم ومبادئ استمدتها من هويتها الحضارية ومرجعياتها الفكرية المؤطرة لفعلها المقاوم وحراكها الحثيث نحو التحرير والاستقلال.

ولا شك أن المقاومة الفلسطينية طيلة مسيرتها المباركة المثقلة بالجراح والأثمان الباهظة، من ثورة البراق 1929م إلى الانتفاضة الأولى 1987م والتي سُميت بانتفاضة الحجارة، والانتفاضة الثانية 2000م والتي سميت بانتفاضة الأقصى، وعملية الوهم المتبدد سنة 2006م التي أسر على إثرها الجندي الصهوني جلعاد شاليط والتي كانت السبب في صفقة وفاء الأحرار سنة2011م حيث أفرج فيها عن 1027 أسيرا فلسطينا وعربيا منهم سيد الطوفان الشهيد الحي المشتبك القائد يحيى السنوار رحمه الله تعالى وكل الشهداء ، وحرب الفرقان 2008م ومعركة حجارة السجيل 2012 ومعركة العصف المأكول سنة 2014 ومعركة سيف القدس 2021م، ومعركة وحدة الساحات 2022م، ثم أخيرا أُم المعارك معركة طوفان الأقصى 2023م، تُشكل تجسيدا مُذهلا بل ويكاد يكون أسطوريا لقيم الإيمان والبطولة والصمود والتضحية والرجولة والمروءة والحرية والكرامة والثبات والوفاء والثقة والأمانة والشموخ والصبر والجَلد والتخطيط والقوة والعفة والسرية والجاهزيةوالهمة العالية والعزيمة النافذة، والإحسان في الإعداد، والاتقان في التنفيذ والرحمة والالتزام والتّحدي واليقين، والروح التعرضية-على حد تعبير المحل الاستراتيجي سعيد زياد- للجند والقادة والحاضنة الشعبية على حد سواء، ضمنت استمرار المقاومة رغم الكيد والغدر والحصار والعُدوان والخذلان.

إن هذه القيم وغيرها لم تضمن استمرار المقاومة في الدفاع عن الأرض والمقدسات، بل كانت الأساس لعنوان انتصارها الاستراتيجي والأخلاقي والإنساني، وتداعيات هذا الإنتصار ظهرت على المستوى القريب  من خلال متابعة العالم لمجريات معركة طوفان الأقصى، وخصوصا الفَرق الكبير والبَون الشاسع في معاملة الأسرى إبان صفقة التبادل، وستظهر على المستوى المتوسط والبعيد من خلال السقوط المدوي لمنظومة القيم الصهيونية. 

وإن غدا لناظره لقريب

مكناس قدس المغرب

الثلاثاء  5شعبان 1446ه/4يناير  2025م

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى