زبيدة بهتاني.. عطاء لا يتوقف ونموذج في التوفيق بين الأسرة والدعوة
امرأة بألف رجل.. عنوان للبذل والتضحية ونكران الذات. منذ زهرة شبابها نذرت نفسها للدعوة وقدمت لأجل ذلك الغالي والنفيس، فكانت برأي من عاشرها خير مربية، ومصباح متوهج لا ينطفئ أبدا رغم ألم المرض وحر الدعوة وتكاليف المسؤولية.
يعرفها الناس بأكادير سيدة قوية لا تعرف معنى اليأس ولا تتراجع إلى الخلف، صامدة أمام “شلل” الجسد مقتنعة بأن المؤمن الصالح لا يقنط عند الابتلاء..
ازدادت زبيدة بهتاني بعاصمة سوس سنة 1966، أتمت دراستها الابتدائية والإعدادية والثانوية بإنزكان قبل أن تعود إلى مسقط رأسها لتلتحق بشعبة الدراسات الإسلامية في جامعة ابن زهر. غير أن ظروفا حالت دون إتمامها للدراسة الجامعية إلى أن عاودت الكرَة مرة أخرى ونالت شهادة الإجازة سنة 2008، وقد تجاوز عمرها الأربعين سنة وفعل المرض ما فعل بجسده. متزوجة وأم لثلاثة أبناء لم تدخر جهدا في تربيتهم أحسن تربية رغم التزاماتها الدعوية التي لا تنتهي.
التحقت زبيدة بالعمل الإسلامي بإنزكان (11 كلم عن أكادير) سنة 1984 لما بلغت السن التي تدفع المرء إلى معترك الحياة بكل عفوية. ومنذ ذلك الوقت بدأت مسارا دعويا كله عطاء ومكابدات وتضحيات دون كلل أو ملل. تقول زبيدة إن انتمائها إلى الحركة الإسلامية غير حياتها بشكل كامل ومنحها شعورا بأنها ولدت من جديد، وأقنعها أن لا غاية للمرء في هذه الحياة الفانية غير إرضاء الله.
قضت زبيدة بإنزكان عقدا من الزمن قبل أن تنتقل رفقة زوجها إلى أكادير. وإلى حدود اليوم لا تزال تتذكر ما سمتها الأجواء الربانية التي كانت تميز العمل الدعوي وتزيدها حماسا فوق حماس وتدفع بها إلى الأمام، وتؤكد أن عطاء كل اللجان كان إيجابيا بدءا من العمل التلمذي وانتهاء بالعمل النسوي مرورا بالعمل الاجتماعي ومحور الأمية وتحفيظ القرآن، وتكشف أنه خلال هذه المدة أنيطت بها مسؤوليات تنظيمية تنوعت بين مسؤولة أسرة تربوية ومكلفة بمهمة في مكتب القطاع وغيرها..
حيوية زبيدة وانضباطها وصرامتها جعلها تتفرغ للعمل الدعوي في “القطاع العام” للحركة، حتى بعد التحاقها بالجامعة، حيث استطاعت أن تزاوج بين العمل النقابي والقطاع العام مع إعطاء الأسبقية لهذا الأخير.
ولأنها كلما آمنت بشيء إلا أخلصت له وعملت على تجويده بكل السبل، فإن دخولها إلى عش الزوجية بعد أربع سنوات من انتمائها إلى العمل الإسلامي لم يعق عطاءها ولم يحل بينها وبين الدعوة في سبيل الله التي تقول إنها الشريان الذي يغذي روحها والعمل الذي تجيد فعله عن اقتناع وحب وتطلع. فقد ظلت زبيدة نموذجا في العطاء دون أخذ واستمرت في القيام بواجباتها الدعوية دون تقصير أو تراجع، وبالمقابل كانت تأتي واجباتها الزوجية كلها لدرجة أن رفيقاتها في الدرب كن تستغربن من قدرتها الكبيرة في التوفيق بين عملها كداعية وكزوجة.
في الحلقة القادمة سنتعرف على المسار الدعوي لزبيدة بهتاني الذي لم ينته بعد إصابتها بمرض أقعدها على الفراش وجعلها عاجزة عن الوقوف وعطل جزءا من جسدها عن الحركة، وسنتوقف عند جهودها في العمل الدعوي بأكادير والطريقة التي كانت تدبر بها تربية أبنائها الثلاثة دون أن يكون لذلك أثر سلبي على عطاءاتها في العمل بالحركة الإسلامية، كما سنتوقف عند تحول منزلها إلى “مقر” تعقد فيه اللقاءات وتتدارس فيه هموم الدعوة.
بهتاني .. نموذج في التوفيق بين الأسرة والدعوة
كان عمرها لا يتجاوز 34 سنة لما أصيبت زبيدة بهتاني بالتهاب في النخاع الشوكي أقعدها الفراش لم ينفع معه علاج، وحولها بين ليلة وضحاها إلى امرأة مقعدة لا تقوى على الحركة دون مساعدة من الغير. لكنها كانت نموذجا للمؤمنة القوية التي تصبر عند الابتلاء، وتقاوم الألم والمرض وتستمر في الحياة قوية صلبة تكثر من حمد الله.
تقول زبيدة إن المرض الذي أقعدها لمدة 14 سنة الفراش لم يقعدها عن ممارسة الدعوة، وتؤكد أن “الهم الدعوي لا زال يجري مجرى الدم في جسدي”، وتضيف “الدعوة هو الهواء الذي أتنفس به وما خلقنا إلا لنكون دعاة“.
لا تزال زبيدة حريصة على الانضباط في الجلسة التربوية، حيث تحج إليها النساء في منزلها أسبوعيا ويتحلقن حولها وهي ممددة على السرير. لا تحس صديقاتها أن شيئا تغير لدى زبيدة فلا يزال عطاؤها متوهجا كما كانت قبل الابتلاء. بل إنها لا تفوت أي نشاط لحركة التوحيد والإصلاح، وتصر على الانتقال إلى المقرات على كرسي متحرك حيث تعقد اللقاءات وتنظم الأنشطة في مشهد مؤثر يبث الحماس في أعضاء الحركة حسب شهادة جميلة بنظام، إحدى مرافقاتها في مسارها الدعوي.
وتشير بنظام، في تصريح لـ”التجديد”،إلى أن حرص زبيدة على الدعوة متأصل في فكرها منذ انتمائها للحركة الإسلامية قبل ثلاثين سنة؛ و تضيف أنها ما زالت تتذكر كيف كانت تصحب أبنائها الثلاثة في كل مناشط الحركة الإسلامية وأينما حلت وارتحلت، فهي لا تستطيع تركهم خلفها دون أن ترعى حاجاتهم وتسهر على تتبع خطواتهم وحركاتهم وهم يكبرون، فقد كانت تضع الأول على ظهرها والثاني في “عربة الرضع” والثالث تمسكه بيدها. وفي ظل هذه المسؤولية تجدها سباقة إلى حضور اللقاءات والتنقل في أحياء أكادير لنشر قيم الاعتدال والوسطية.
ولأنها لا تهدأ من حرقتها على الدعوة، حتى في شدة مرضها، فإنها بعد شهرين فقط من إصابتها بالمرض، وتوضح بنظام أن الطبيب طلب منها أن تتوقف عن تناول الدواء، وتزامن ذلك مع نشاط دعوي، فاستغلت ذلك وحضرت للنشاط، الأمر الذي تدهورت بسببه حالتها الصحية من جديد، لتكتشف فيما بعد أنه ما كان على الطبيب أن يطلب منها التوقف عن تناول الدواء و لا أن تغادر هي فراشها.
و تحكي بنظام في شهادتها أن بهتاني كانت دائما أول الملتحقين باللقاءات والجلسات التربوية والأنشطة التي تشارك فيها، ولا تتذكر بنظام أن صديقتها أخلفت يوما موعدا أو تأخرت عن الحضور ولو لدقائق عن مواعيد اللقاءات المبرمجة. ومما يثير الاستغراب برأي بنظام، أن انضباط بهتاني في حضور مناشط الحركة لا يكون على حساب أسرتها الصغيرة. وتؤكد أن عددا من اللقاءات والجلسات التربوية تعقد في منزلها الذي يعد “مقرا” للدعوة ومنطلقا للبرامج والمخططات، وأن الحاضرين يفاجئون عند استقبالهم بأن زبيدة قد قامت بكل مسؤوليات المنزل من طبخ وتنظيف وأعدت واجباتها كأم وزوجة قبل موعد اللقاء (الساعة التاسعة أو العاشرة). وتشدد بنظام على أن بهتاني تعد نموذجا في التوفيق بين الأسرة والدعوة، وقدوة للدعاة في تهييء أسباب النجاح.
من جهة أخرى، تعد بهتاني نموذحا في الحرص على تربية الأبناء تربية حسنة، فرغم “شلل” جسدها، توضح بنظام، تحرص على تتبع أخبار أبنائها ونصحهم والسؤال عنهم، كما تحرص على القيام بواجباتها المنزلية ما أمكن وهي مقعدة على السرير مستعينة بأدوات تساعدها في تقريب الأشياء، تجيب على الهاتف وتبرمج اللقاءات وتستقبل في منزلها كل محتاج وراغب في ممارسة الدعوة وتتابع صفحتها على الفايسبوك.
ومن الأشياء التي يلحظها كل من اشتغل مع بهتاني في الحقل الدعوي شخصيتها القوية وصرامتها في المتابعة والمحاسبة، حتى أن الذين يلتزمون معها في اللقاءات يضربون لها ألف حساب في حالة تهاونوا في أداء مسؤولياتهم بنجاح، تؤكد بنظام.
هذه باختصار قصة زبيدة بهتاني المرأة التي تحدت بالإرادة القوية ألم المرض واستمرت في عطائها الدعوي بكل توهج.