د. رمّال يكتب: “الديمقراطية” حين تختطفها اللّوبيات: من صوت الشعب إلى استبداد المصالح

تمهيد: وعدٌ تبخّر
لم تكن الديمقراطية مجرّد آلية انتخابية، بل كانت وعداً بأن يستعيد الإنسان كرامته، وبأن يصبح المواطن هو مصدر السلطة وصاحب القرار. كانت صرخة ضدّ الاستبداد الفردي، وتعهّداً بأن لا يُقَرّ قانونٌ إلا بإرادة الناس، ولا تُنفذ سياسة إلا برضاهم.
لكنّ هذه الديمقراطية؛ التي ظهرت كثمرة نضال طويل ضد الطغيان والفساد؛ ما لبثت أن انقلبت على ذاتها؛ فتحوّلت من أداة تحرير إلى وسيلة تضليل، ومن قناة تمثيل إلى ميدان تصريف لمصالح الكيانات الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية. وهذا حتّى في الدّول الإسلامية التي نزل فيها قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، وهو يشمل خيانة التمثيل السياسي الذي يُفترض أن يكون أمانة لا سلعة تُباع.
- الديمقراطية حين تُمثّل الأقلية لا الأغلبية
يُعرَّف النظام الديمقراطي عند أهل التّخصّص بأنه “حكم الشعب بواسطة ممثليه المنتخبين”. لكن الواقع يكشف شيئاً آخر تماماً: هؤلاء الممثلون، في كثير من الدول، لا يعكسون إرادة ناخبيهم؛ بل يعبّرون عن مصالح الجهات التي برّزتهم، وموّلت حملاتهم، ووجّهت الإعلام لخدمتهم، ونسّقت لهم التحالفات.
صار البرلمانيون في عدد متزايد من الديمقراطيات بما فيها الدّول الإسلامية؛ وكلاء شركات ومجموعات ضغط (لوبيات) لا وكلاء للشعب. ومتى تعارضت إرادة الناخبين مع إرادة المموّلين، فإنّ المال يقرّر، لا الصندوق.
والله تعالى حذّر من هذا النّوع من الخيانة؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، فكيف إذا كانت الديمقراطية نفسها تصير في صفّ الخائنين؟
- صعود اللّوبيات: السلطة الموازية التي لا تُنتخب
اللوبيات هي جماعات ضغط تُمارس تأثيراً مباشراً على صانعي القرار من خارج الآليات الانتخابية. وتتنوّع اللوبيات ما بين لوبي السلاح، ولوبي الأدوية، ولوبي التكنولوجيا، ولوبي الشذوذ، ولوبي “إسرائيل”، وغيرهم.
وتمتلك هذه الكيانات (اللّوبيات) القُدرة على تمويل الحملات الانتخابية، والسّخاء في تقديم الرّشاوى، وعلى الضغط على الإعلام، وعلى تهديد المسؤولين، بل وابتزازهم أحياناً. والأخطر أنها لا تخضع لأي رقابة شعبية، ولا تُحاسب على القرارات التي تفرضها خلف الستار. والله تعالى ذمّ التعامل بالرّشوة: -قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما» [رواه الترمذي]، فكيف إذا أصبح شراء الولاءات السياسية نظاماً مقنناً؟
- تشريعات تصدم الفطرة والعقل
تحت تأثير هذه اللوبيات، نشأت تشريعات لا تعكس لا تطوّراً أخلاقياً ولا علمياً، بل تحرّكها أجندات خاصة، وتحظى بدعم إعلامي كاسح.
هل كان أحد ليتصوّر أنّ الكنيسة؛ المؤسسة التي طالما مثّلت القيم المسيحية التقليدية؛ ستُجبَر على الموافقة على زواج الشواذ؟ هل يُعقل أن يصبح تبنّي الأطفال من قبل مثليين أمراً محمياً بقوة القانون، رغم ما في ذلك من مساس بحقّ الطفل في التنشئة الطبيعية؟ بل الأدهى: يُمنع الاعتراض على هذه السياسات باسم “الحقوق الفردية”، وتُخنق أصوات العقلاء بتهم “الكراهية’ و’التمييز”. هكذا يتمّ تشويه الفطرة وطمسها: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]، الفطرة التي يولد عليها الإنسان؛ قال ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة…» [البخاري ومسلم]، فكيف تُشرّع باسم الدّيمقراطية قوانين تصادم هذه الفطرة؟
- ازدواجية القيم و”ديمقراطية الدرجة الأولى”
إنّ الديمقراطية اليوم لا تُحدَّد فقط بوجود برلمان وانتخابات، بل بكيفية التعامل مع القضايا الكبرى: حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة…
لكن الواقع يقول: لا مساواة في الديمقراطية. فحين يصيب الهُزال رهينتين صهيونيتين؛ ينعقد مجلس الأمن على الفور، وحين يُجَوَّع الملايين في غزّة، لا أحد يُبدي اكتراثاً، وحين تُقصَف المستشفيات والمدارس ويُقتل الأطفال؛ يُقال: “حقّ الدفاع عن النفس”.
- نقد لا يبرّر الاستبداد
إنّ القول بأن الديمقراطية انحرفت لا يعني الدعوة إلى أنظمة قمعية. بل على العكس؛ إنّ الاستبداد العربي -مثلاً- هو أوّل من يبرّر بقاءَه بالقول إنّ “الديمقراطية الغربية منحطّة”. وهذا مكرٌ مرفوض.
والمطلوب اليوم ليس استبدال الديمقراطية بالديكتاتورية؛ بل مراجعة جذريّة للمسار الديمقراطي الحالي بما يفضي إلى:
- إعادة السلطة للشعب لا للمال.
- تجريم بيع الأصوات السياسية.
- وضع حدّ لتأثير اللوبيات في صياغة القوانين.
- حماية الفطرة والعقل والكرامة من عبث الأقليات المتنفّذة.
خاتمة: هل ماتت الديمقراطية؟
لا… لكنّها أُصيبت بتشوّهٍ عميق. فالديمقراطية لم تَعُد صوت الشعب؛ بل تحوّلت إلى مسرح يُمثِّل فيه السياسيون أدواراً كُتِبت في دهاليز اللّوبيات ومكاتب الشركات الكبرى.
والطريق إلى ديمقراطية حقيقية يبدأ بوعي الناس. فحين يُدرك المواطنون أنهم لا ينتَخبون فقط في يوم الاقتراع، بل يُستَغفَلون طيلة بقية الأيام، يمكن أن يبدأ التغيير.
حين تصبح الكرامة الإنسانية والعقل والفطرة؛ مداخل إصلاح سياسي لا مجرّد شعارات حزبية… يمكن للديمقراطية أن تُبعث من جديد.