بدل الوسع في سبيل الله: حقيقته وتجلياته وثمراته – العلوي مولاي الحسن

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه
معنى بدل الوسع في سبيل الله:
بدل الوسع في سبيل الله تعالى هو مصطلح إسلامي يعني بدل أقصى ما يستطيع الانسان فعله سواء من جهة المال او الوقت او الجهد او غير ذلك في طاعة الله وخدمة دينه.
ومن الناحية اللغوية يعني بدل الوسع: استنفاد الطاقة والقدرة والجهد في سبيل شيء معين سواء كان مالا او وقتا او شيئا اخر معينا.
وحينما نقول في سبيل الله: أي في طريق الله وفي كل ما يرضي الله ويقرب اليه ويشمل ذلك: الجهد والانفاق والنصح والصدق والتضحية والاخلاص وغير ذلك من الاعمال الصاحة.
وبهذا النوع الذي هو سبيل الله يخرج البدل المصلحي والبدل الطمعي والبدل الرئائي والاشهاري….. وكلها أنواع مذمومة لا يقبلها الشرع ولا العقل السليم، وبدلك يكون عندنا في بدل الوسع نوعان: نوع مذموم مرفوض وبذل مطلوب مرغوب…..
والخلاصة أن بدل الوسع في سبيل الله هو مفهوم شامل يطلق على أي جهد يبذله المسلم في سبيل تحقيق مرضاة الله وخدمة دينه.أمثلة توضيحية لبدل الوسع في سبيل الله أو لنسميها من تجليات بدل الوسع في سبيل الله.
فمن أبرز الأمثلة الدالة على الوسع في سبيل الله نذكر ما يلي:
الجهاد: ويكون ببذل الجهد في سبيل الله للدفاع عن المسلمين وحماية دينهم وأوطانهم وأعراضهم، إما بالمال أو النفس أو الكلمة الصادقة المسموعة أو المكتوبة….
الانفاق في سبيل الله: وذلك ببذل المال وإنفاقه لخدمة الدين ومصالح المسلمين ومساعدة الفقراء والمحتاجين من الارامل واليتامى والمساكين، والوقوف معهم في ساعة العسرة والشدة….
الدعوة الى الله تعالى: كما هو الشأن في حركتنا المباركة عن طريق الاسهام في إقامة الدين وإصلاح المجتمع بوسطية واعتدال، كل من موقعه ومحيطه الذي يتحرك فيه خصوصا ونحن نواجه استهداف منظومة القيم الأخلاقية والدينية في بيوتنا ومؤسساتنا وإعلامنا مما يستوجب علينا بذل الوسع والجهد والعطاء لحماية أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا، والمطلوب منا أن نستفرغ ما في وسعنا لمواجهة الفساد ونشر الصلاح بين العباد، ولا سبيل الى ذلك إلا بتغيير حالنا قبل أن نغير حال غيرنا “أصلح نفسك ثم ادع غيرك” بل لابد أن يكون الداعي الى الله تعالى مرتبطا بواقع أمته يحمل همها ويفقه مشاكلها ويعاني آلامها ويتهيأ لحمل أعبائها، باذلا في ذلك ما في وسعه في سبيل اصلاح نفسه ومجتمعه.
الاجتهاد في العبادة: أي بدل الجهد في القيام بالفرائض وأداء النوافل وما يرتبط بها من أدعية وأذكار، وحري بمن ينتسب لهذه الدعوة أو الحركة المباركة أن يحرص لا على الفرائض فحسب وإنما على السنن والنوافل والاوراد اليومية، فيعطي المثل من نفسه على بدل الجهد والوسع في الطاعة والاتباع ونبذ الكسل والابتداع، وقد يحز في النفس أن تفتقد فردا أو مجموعة من الافراد في الصلوات المفروضة أو الجلسات المعهودة ولا يكلف نفسه تقديم عذر أو تبرير غياب، ولو أن الأولى أن يكون عذره لله المطلع على حاله ومآله ثم لنفسه التي حرمها الاجر والثواب.
الاجتهاد في بدل الوقت وانفاقه في سبيل الله: فالوقت هو نعمة عظيمة من نعم الله تعالى يجب على المسلم المحافظة عليه والاستفادة منه واستغلاله في الطاعات والخيرات فينظمه بين واجباته الدينية والدنيوية فهو يجازى عنه ومسؤول عن ضياعه، يكفي لبيان أهمية الوقت وقيمته في حياة المسلم دليلان من الأدلة الكثيرة المبثوثة في القرآن والسنة منها: قسم الله تعالى بالعصر “والعصر ” الذي هو الزمن أو حياة الانسان، والعظيم لا يعظم ولا يقسم إلا بما هو عظيم.
كذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع..”، وكلها أمور مرتبطة بالوقت والزمن، فأعدو للسؤال جوابا.
بدل الوسع في الحفاظ على الاسرة وصلة الرحم: ولا يخفى عليكم الجهود المبذولة اليوم من طرف أعداء القيم لتفكيك الاسر وتخريبها، فأضحى من أولى الاوليات دعم دعائم الاسرة والحفاظ على تشبتها باعتبارها الركيزة الأساسية في بناء المجتمع وتماسكه وهي خط الدفاع الأول عنه، ففي سلامتها واستقرارها سلامة المجتمع واستقراره ويعتبر الحفاظ عليها وصلة أرحامها من أجل العبادات التي يتقرب بها الى الله تعالى فهي مثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن خرج عنها كان من المغرقين.
دفع المفاهيم الخاطئة لمفهوم بدل الوسع: بعد أن تبين لنا المعنى الحقيقي لمفهوم بدل الوسع وحقيقته اليكم بعض المفاهيم الخاطئة التي علقت في أدهان الكثيرين من الناس ومنهم بعض أفراد الدعوة أو حتى في حركتنا المباركة، فالكثيرون يصرفون معنى بدل الوسع الى الجهد والمشقة، ويحملونه على معنى سلبي يفتح باب المشقة والحرج على المتطوعين في سبيل الله، بينما هو جهد في متناول الانسان لا يخرج عن قدرته وطاقته، فإذا خرج عن الطاقة والقدرة لم يبق وسعا وإنما عنتا ومشقة.
ومما يوضح لنا هذا المعنى لبذل الوسع ويحذرنا من مفهومه الخاطئ اختلاف أفهام الناس في معنى قوله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ ” أو “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ – سورة التغابن الآية 16”
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره: الوسع في القراءة بضم الواو في كلام العرب هو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا في الآية ما يطاق ويستطاع.
وفي تفسير الشعراوي رحمه الله “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ ” أنه سبحانه لم يكلفهم الا بما هو في الوسع، لماذا؟ لان الاحداث أي الوقائع بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهو بعيد عن التكليف، الثاني: هو مالنا قدرة عليه لكن بمشقة أي بجهد طاقتنا قليلا، الثالث: التكليف بالوسع، إذ “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ ” أي أن الحق سبحانه لا يكلف النفس الا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، فهذا في الوسع، وممكن أن تزيد…… ومادام كلفنا ما في الوسع، فإن تطوعت أنت بأمر فهذا موضوع آخر”فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ ” فالتكليف لا يكون الا في الوسع ولو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة.
وأما قول الله تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” فالكثيرون يصرفون معنى الاستطاعة الى الضعف وقلة الجهد المبذول في أداء العبادات والقربات وأداء الاعمال بشكل عام ويحملونها على شكل سلبي يفتح الباب للتكاسل والتواكل بينما الاستطاعة في الاية تدل على بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل الشيء
يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسير الاية: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” أي مدة استطاعتكم وقدرتكم ليعم الازمان كلها ويعم الأحوال تبعا لعموم الزمان بمعنى لا تتخلوا عن التقوى في حال استطاعتكم في شيء من الازمان، فليس في قوله تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” تخفيف ولا تشديد ولكنه عدل وانصاف ففيه ما عليهم وفيه ما لهم….
وفي السنة نجد الدعوة الى اجتناب المنهيات وبذل الجهد واستفراغ الوسع في القيام بما أمرنا
به الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “دعوني ما تركتكم عليه، فإنما
هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم.”
وعند الصحابة رضي الله عنهم نجد استفراغ الوسع والطاقة في الانفاق، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق حتى يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فيقول أبقيت لهم الله ورسوله، وهذا عثمان رضي الله عنه ينفق حتى يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، وهذا طلحة بن عبيد رضي الله عنه ينفق ويعطي حتى لقب بطلحة الخير وطلحة الجود وطلحة الفياض.
بدل الوسع في النصرة والتدافع: واذا كان استفراغ الجهد وبذله أمرا مطلوبا في صالح الاعمال من العادات والعبادات، فإنه من باب التدافع والحماية ونصرة المسلمين أولى وأوكد، اذ الامة التي لا تنصر الضعفاء ولا يؤخذ فيها على أيدي الظالمين هي أمة غير جديرة بنصرة الله ومعيته ولا بتطهيره لها ورحمته، فمن نصر نصر ومن خذل خذل، وأن القادر على النصرة لأخيه أو لإخوانه بكلمة أو شفاعة أو إشارة بخير أو دعاء إن لم يقدم ذلك مع قدرته عليه وهو يرى بعينيه ويسمع بأذنيه إذلال إخوانه، ألبسه الله لباس ذل أمام الخلق يوم القيامة، فماذا يقول المتقاعسون المتخلفون عن نصرة إخوانهم المظلومين المضطهدين في فلسطين، هؤلاء تكالبت عليهم الأمم وتخلى عنهم القريب قبل البعيد وخذلهم الجيران والاخوان، فانتهك العدو حرماتهم واستباح دماءهم وأعراضهم وقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم وزعماءهم أمام أعين العالم أجمع، وقد تهدمت بالخذلان مجمعات سكنية على رؤوس أصحابها وقصفت مستشفيات ومدارس وهدمت كنائس ومساجد، ولقد كان من نصيب المجاهدين في غزة أن يقاتلوا العدو الصهيوني الغاشم والجاثم على أرضهم نيابة عن الامة التي أخذلهم المتثاقلون الى الأرض الذين باعوا دينهم بدنياهم، فأصبح بذل الوسع في نصرتهم أمرا محتوما وواجبا شرعيا إنسانيا لا يتخلى عنه الا مخاذل أو منافق معلوم النفاق.
إن نصرة هؤلاء المستضعفين المظلومين هي نصرة للحق وللدين ولمقدسات المسلمين، ومن أبواب النصرة التي بوسعك أن تقدمها لإخوانك في غزة أن تنصرهم بقلبك وبدعائك ولسانك وقلمك ومظاهراتك وبكل ما تيسر لك، فالكلمة والموقف والمظاهرات لا تقل أهمية عن نصرة السيف والبندقية، قال صلى الله عليه وسلم: “اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل ” رواه مسلم
وأن مفارقة الظالمين والمغتصبين ومغادرة مجالسهم ومقاطعة بضائعهم وفضح مكرهم وظلمهم، والخروج في الساحات تنديدا بهم لهو من النصرة الفاعلة المؤثرة يحتسب أجرها وثوابها عند الله تعالى.
وإذا كان الدفاع عن فلسطين أمرا مشروعا فإن الدفاع عن الوطن ووحدتنا الترابية أمرا ملزما لا ينكره إلا خائن، ولذا لابد من بذل الوسع والجهد لمواجهات التحديات المتعلقة بالقضيتين معا في شتى المجالات سواء بالمال أو العلم أو الاعلام أو المقاطعة أو الدعاء، وكل ذلك من باب الواجب وليس من قبيل التطوع أو التبرع أو الاختيار قال تعالى: “انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” سورة التوبة الآية 41.