الواعظ الديني والسَّير الرّوحاني مع رسول الله – شيروان الشميراني
في عالم الإعلام من الدروس الذي يلقى ويشدد عليه هو أن يخرج الكلام من الأحشاء في المجال السمعي البصري، حتى يكون الصوت قويا رخيما ومؤثرا ويتفاعل المستمع والمشاهد مع ما يذيعه المتحدث من النصوص الخبرية، وإذا لم يكن كذلك فإن الصوت يخرج من الأنف، ولن يكون مريحا على السمع إن لم يكن مزعجا، علما أن الروحانية غير مطلوبة من قاريء النصوص الخبرية والتفاعل الكامل يكفي.
ضربنا المثل في عالم الإعلام للتدليل على أن توفير شروط إيصال الكلام الى المستمع ليس مما يمكن الاستغناء عنه. بل لا يكون الكلام إلا من أجل إيقاع التأثير على السامع من أجل إقناعه وتحويله الى عامل من عوامل تحديد الموقف ورسم السلوك.
وفي عالم الوعظ الديني والإسلامي على وجه التحديد فإن من أساسيات الشروط لكي يكون الكلام مؤثرا، ينبغي أن يخرج من القلب، لأن موضوع الحديث الديني له بعد روحاني غيبي وهو مجال العمل والتفاعل والتجاوب، فيجب أن تخرج النصيحة من القلب لكي تجد طريقها إلى القلب وتستقر فيه، وأن تأخذ قوتها من قوته بما تكون محرّكاً للمشاعر والأحاسيس، وحتى تترك فعلاً وتتحول إلى عمل.
وبما أن الجمهور العام من المسلمين هم من المستمعين، فإن الإشكالية الكبرى التي يعاني منها مع أخريات مصاحبة، هي:- أن الكلام يخرج من الحنجرة فما فوق، لا يتفاعل المتكلم الواعط قلبياً مع ما يقول، لديه إنسداد روحاني، فلا يخرج حديثه من حبات القلب، وكل ما يخرج هو من الدماغ الذي يسبب الوجع عندما يطول و لا يؤثر حتى عندما يكون قصيراً، ففي كلا الحالين لا يؤدي ما يرتجى منه، وفي سبيل التغطية والإستعاظة يلجأ المتحدث إلى علو، لكن ليس العلو الروحاني وإنما علو في نبرات الصوت، يُفَعِّل أوتار الحنجرة بدل تفعيل أوتار القلوب وهو يكافح للوصول إلى عمق شخصية المستمع المعنوية الحاضر أو الغائب.
تجد الحنجرة ترتجف وتتعب وتضيق منافذ الصوت، لكن القلب ساكن سكوناً هو كالجمود، والروح هادئة هدوء النيام، ومعلو مأنّ الروح ليست هي التوتر وقوتها ليست هي الارتجاف والارتعاد، إنّ الروح هي القوة المعنوية الجبارة التي لا تعترف بالحدود، تزيل العوائق في الطريق بسكونها النوراني الرفيف الرقيق.
وقد كان الإمام سعيد النورسي – رحمه الله – يعاني من هذه المشكلة وهو يحضر خطب الجمعة، وسجلها كإحدى المسائل التي بحاجة الى علاج كأي مرض آخر، حيث لم يكن يستمتع، ولا ينفعل قلبه مع خطبة الخطيب، هو يعيده إلى سببين، سبب قلبي، وسبب علمي حيث إن الخطيب لا يتعاطى مع المشاكل المستجدة والآلام التي تحيط بالمسلمين.
الحق أن وارث النبي “صلى الله عليه وسلم” ليس هو وارث السطوة والسلطة، ليس هو وارث الصدارة الاجتماعية، ولا وارث التبليغ العلمي المجرد، أو إصدار الفتوى والاستمتاع بسطوتها المعنوية على المستفتي، لكنه وارثه في هداية الناس وإرشادهم، وبما أن الدين بطبيعته روحاني، أو لا يعمل إلا بحضور قوي للروح، وأنّ كل هداية الدين تشتغل على الروح وإثارتها، فإن روحانية المتحدث في المجال الديني مقدمة على صناعة الألفاظ وبلاغة الكلام، وعلو الروح مقدم على علو الصوت، علو الروح أساسي وعلو الصوت من التحسينيات في لحظته المناسبة، وليس حسب هوى المتحدث ومزاجه، وأن لا يكون وسيلة لتغطية النقص في البعد الجَوّاني والضعف في دقة التعبير.
في حديثه البليغ، حدّد الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي نقاط قوة البيان النبوي في بحث مفصل متكامل يحمل عنوان ” السموّ الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية”، فهو وبعد قراءة صحيح البخاري من البداية إلى النهاية، توصّل إلى أنّ إحدى نقاط قوة هذه البلاغة النبوية والتأثير الأقرب الى السحر البياني هو “السمو الروحي”، سمو روحانية الرسول ” صلى الله عليه وسلم” وهو ينصح ويرشد ويهدي الناس الى طريق الله سبحانه، يقول: ” إن ذلك الجمال الفني في بلاغته –صلى الله عليه وسلم – إنما هو أثر على الكلام من ( روحه) النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها”، ولهذا تجد خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصيرة وكلماته المنقولة إلينا في أحاديث صحيحة قصيرة لكنها ذات تأثير كبير، لا يجارى في تأثيره “فكله دين وتقوى وعلم، وكله روحانية وقوة وحياة…وإن من الجمال الفني أن ترى صلاة وصياماً في صورة ألفاظ…فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا، بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج اليها الوجود الروحاني على هذه الأرض”.
فالإنسان المسلم لا سيّما من يتصدى الى النصيحة ومهمة التبليغ لا مفر له من “السَير مع السيرة النبوية”، وهو القدوة الأعظم بأمر قرآني، وبالسير مع السيرة في السمو الروحي والجمال الجواني يأتي التبليغ ساحرا، ويفعل فعل السحر في الإحساس، ويكون المتحدث حينئذ مرتاحا غير مضطر إلى الانفعالات التي لا ضرورة لها، ولا هزّ الأصابع الذي هو أقرب الى التهديد منه إلى الإشارة وشرح المعاني، ولا إلى الالتجاء إلى صناعة الألفاظ، “وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها، والكلمة الصادقة تُنطق مرة واحدة، فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء، كأنما ألقي فيها النورُ”. والنور يضيء ما حوله من دون الحاجة الى التكلف ولا الى الغموض، ضوءه ذاتي نابع من الانبعاث الداخلي.