ذ محسن بنخلدون يكتب : الصحراء المغربية.. حين تنتصر الدبلوماسية الهادئة وتبدأ معركة التفاصيل

القرار الأممي الأخير المتعلق بقضية الصحراء المغربية لم يكن حدثاً عادياً في مسار هذا النزاع الممتد لعقود. فقد شكّل، في جوهره، لحظة اعتراف أممي متجدد بجدية المبادرة المغربية للحكم الذاتي، ونجاحاً سياسياً ودبلوماسياً للمغرب الذي استطاع أن يجعل من مشروعه الواقعي إطاراً للنقاش الدولي حول مستقبل الإقليم. ومع ذلك، فإن لحظة الفرح، مهما كانت مستحقة، لا تُغني عن لحظة الوعي بعمق المعركة التي لا تزال مفتوحة على مستويات متعددة: تفاوضية، دبلوماسية، اقتصادية وأمنية.
تميزت الدبلوماسية المغربية خلال السنوات الأخيرة بقدر كبير من النضج والاتزان، حيث تبنت استراتيجية استباقية عوض الاكتفاء بردود الفعل. هذه الاستراتيجية بُنيت على ترسيخ مبادرة الحكم الذاتي كخيار وحيد واقعي وعملي، وبناء شبكة دعم دولي متينة تشمل عواصم مؤثرة في القرار الأممي مثل واشنطن وباريس ومدريد، إلى جانب تحرك إقليمي ذكي عزز من علاقات المغرب مع الدول الإفريقية والعربية، ما ضيّق من هامش المناورة لدى خصوم الوحدة الترابية.
لم يأتِ القرار الأخير لمجلس الأمن من فراغ، بل كان ثمرة لهذا العمل الدؤوب والهادئ. فالتقرير الأممي استعمل لغة دقيقة لم تفتح الباب لأي خيار خارج إطار السيادة المغربية، وأعاد التأكيد على دعم الحل السياسي الواقعي القائم على التفاوض، مما يجعل مبادرة الحكم الذاتي مرجعاً مركزياً في مقاربة الأمم المتحدة للقضية.
غير أن هذا التقدم، ورغم أهميته، لا يعني أن المسار قد بلغ نهايته. بل إن التحدي الأكبر يكمن الآن في الانتقال من لحظة الاعتراف الدولي إلى مرحلة الترجمة العملية على الأرض. فالدعم السياسي وحده لا يكفي إن لم يصاحبه مشروع متكامل يُجسّد مضمون الحكم الذاتي كواقع ملموس. وفي هذا السياق، تبرز ثلاثة تحديات رئيسية:
أولاً، إقناع الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها الجزائر، بأن النموذج المغربي لا يستهدف أحداً بل يسعى إلى استقرار المنطقة ككل.
ثانياً، صياغة نموذج الحكم الذاتي بتفاصيل دقيقة تضمن العدالة في توزيع الموارد والثروات مع الحفاظ التام على السيادة الوطنية.
ثالثاً، تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالأقاليم الجنوبية لتحويل التجربة إلى نموذج ناجح يجعل المطالبة بأي بدائل فاقدة للمصداقية.
القرار الأممي يمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، لكنه لا يشكل نهاية المطاف. فمسلسل الشرعية الأممية لا يُحسم بمجرد صدور قرارات، بل عبر مسار تفاوضي تراكمي يفضي إلى اتفاق شامل يحظى بقبول جميع الأطراف. لذا فإن المغرب مطالب بالتمسك بمبدأ الواقعية في التفاوض، مع تجنب الانفعالات التي قد تجرّه إلى ردود فعل غير محسوبة أمام الاستفزازات أو محاولات التشويش.
كما أنه مطالب بمواصلة الإصلاح الداخلي، لا سيما على مستوى الحكامة الجهوية والتنمية المستدامة بالأقاليم الجنوبية. ومن شأن الاستثمار الذكي للزخم الدبلوماسي الحالي أن يُقنع المزيد من الدول بفتح قنصلياتها في العيون والداخلة، في خطوة رمزية قوية تعزز السيادة وتكسر منطق الجمود.
من المهم أيضاً أن ينظر المغرب إلى تجارب الحكم الذاتي الدولية، إذ إن التاريخ المعاصر مليء بالأمثلة التي يمكن أن يستفيد منها. ففي إقليم الباسك الإسباني مثلاً، نجحت التجربة بسبب اعتمادها على الثقة المتبادلة والتدرج، بينما تعثرت تجربة هونغ كونغ لأن الصين أعادت تعريف الحكم الذاتي بما يتماشى مع مصالحها السياسية، مما أضعف الثقة وزاد من حدة التوتر.
أما تجربة كردستان العراق، فقد أبرزت أن الحكم الذاتي إذا لم يكن مصحوباً بتوزيع عادل للثروات، فإن التوتر سيبقى قائماً مع المركز. هذه الأمثلة توصلنا إلى خلاصة جوهرية: نجاح النموذج المغربي رهنٌ بقدرته على تحقيق الاستقرار، وضمان العدالة، وترسيخ السيادة الوطنية كخط أحمر لا يقبل المساومة.
ولعل أخطر ما يمكن أن يواجه المغرب في هذه المرحلة هو الوقوع في فخ الاسترخاء بعد لحظة الانتصار الدبلوماسي. ولذلك، هناك محاذير لا بد من الانتباه إليها. أولاها، الغرور الدبلوماسي الذي قد يُضعف من الحذر السياسي اللازم في التعامل مع خصوم الوحدة الترابية.
ثانيها، التسرع في الإعلان عن النصر النهائي، فالمسلسل الأممي بطبيعته بطيء ومعقد ويحتاج إلى صبر استراتيجي طويل النفس. وثالثها، إهمال البعد الاتصالي، داخلياً وخارجياً، في وقت يحتاج فيه المغرب إلى خطاب تواصلي عقلاني يشرح مواقفه بلغة مفهومة للرأي العام الدولي، بعيداً عن الانفعال أو الخطاب الدعائي.
إن القرار الأممي الأخير، في جوهره، ليس سوى محطة مضيئة في مسار معقد وطويل. وهو تأكيد جديد على أن قضايا السيادة لا تُحسم بالشعارات أو العواطف، بل تُكسب بالعقل والتراكم والعمل المتأني المدروس.
ولأن المغرب اليوم في موقع قوة، فعليه أن يُحوّل هذا النصر إلى لحظة بناء حقيقي، لا فقط في عيون المنتظم الدولي، بل في أعين مواطنيه أيضاً. فالحكم الذاتي، كما تريده المملكة، ليس مجرد وصفة تقنية، بل مشروع وطني شامل يجمع بين السيادة والوحدة والعدالة الجهوية، وهو مشروع يُعبّر عن مغرب الغد كما تتصوره المملكة: دولة حديثة، واثقة، قادرة على إدارة تنوعها بحكمة، وحسم قضاياها بسيادة.
هكذا تتجاوز المعركة إطارها الأممي، لتصبح معركة بناء داخلي، تُقنع من خلالها المملكةُ العالمَ أنها لا تدافع فقط عن حدودها، بل عن نموذجها الحضاري والسياسي الذي يستحق أن يكون مرجعية إقليمية في إدارة النزاعات وبناء السلام.



