الرسالة المحمدية، والنفس الإنسانية – بنداود رضواني
– ( حتى يغيروا ما بأنفسهم )
ابتداء، ليس المراد بالنفس في هذه المقالة المادة البدنية للإنسان، ولا الروح، فالقصد هنا، ذلك المخلوق الخفي المتفرد الكائن داخل البدن. وهي وإن كانت مستقلة بنفسها، وقائمة بذاتها، فلا يمكن أن ننفي علاقة الترابط بينها وبين الجسد والروح…
ومع ذلك، تظل النفس منذ وجدت، من أعجب ما خلق الله، وأغرب ما برأ سبحانه….!!!
فأسرارها، وطبائعها، وأحوالها…عجيبة.
و أحاسيسها، و وساوسها، وهواجسها… غريبة.
فهي بين المثالب والشمائل، و بين العافية والمرض تتردد…
و بين السمو والسقوط، و التغير و الإستقرار تتقلب،…
إنها تربة الفضائل والقربات…، وفي نفس الآن مستودع الرعونات والشهوات….
هي المركز والجوهر، واللب و المخبر…
و قائد الجوارح نحو الخير أو الشر…
وهي العقبة الكؤود في الطريق إلى الله.
وهي المراد من التكليف، والمخاطب في التنزيل…
لذا كانت ولا تزال شغل الدعاة المخلصين، و هَمَّ المصلحين الربانيين…
و تأثير النفس يتجاوز حدود الذات، ليسري في البيئة و العمران، و الأَنْعُم و الأحوال، ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)، الأنفال/ 53-54. ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )، الرعد/ 11.
هذا في القرآن، أما في كلام النبوة، فالنهوض الحضاري و عملية التغيير فلا يشار فيهما إلى الأسباب المادية والآلية.
فالحضارة كيف ما كانت، إنما تبنى ابتداء من خلال قواعد نفسية وروحيّة، ويتشكل صرحها من قيم وأخلاق إنسانية بدرجة أولى، هذا ما جلاه الوحي، وأكدته قوانين البناء الحضاري، فكل ” قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي، فكل ما يراد تحقيقه لا بد أن نبدأ بتحقيقه أولاً في أنفس الناس…. ” علي عزت بيجوفيتش، نقلا عن موقع / الصحوة نت.
و من منظور القرآن الكريم، فالتاريخ هو ميدان الإمتحان الحقيقي للفعل البشري، وكاشف مهم لقوانين التحضر، لكن الأكيد أن النفس الإنسانية هي المؤثر الأساس في الأحداث التاريخية والوقائع الإجتماعية وفق آيات التنزيل، لذا فإغفال أو إهمال هذا التأثير، سيفضي حتما إلى إضفاء السطحية على فهم ما جرى و يجري…، والبساطة أثناء تحليل ما وقع و يقع…، فتصير إثر ذلك جميع المقاربات النهضوية قاصرة عن كشف العلل و المشاكل التي تتخبط فيها المجتمعات الإنسانية.
– الرسالة المحمدية، والنفس الإنسانية.
في البدء، كانت الرسالة…، وكان الرسول…، كانت الدعوة…، وكان الداعية ….
ومنذ فجر الإسلام، شغلت الدعوة إلى الله حيزا مهما من حياة المسلم، وجزءا كبيرا من القربات الإيمانية،( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ ) المدثر، 2/1 . بل يستحيل أن نتصور الإسلام بدون دعوة، ومبادئه بلا إرشاد…، لأن من أخص خصائصه دعوة الناس جميعا إليه، وإرشادهم لصراطه، وهدايتهم لطريقه.
وبالنظر إلى عقائد اليهود والنصارى، فقد ظلت الدعوة محصورة في المجتمعين اليهودي والنصراني، لأن غيرهم ليسوا أهلا لتمثل وصايا ” الكتاب المقدس “، وغير جديرين بالإنتساب إلى موسى وعيسى، وفق ما يدعون… !!!، وأما المذاهب الوضعية التي نبتت في الهند و بلاد فارس وغيرهما ، فلم تكلف هي الأخرى نفسها عناء التبشير بمبادئ مؤسسيها الأوائل وآراء زعماءها التاريخيين.
والخلاصة، أن وصايا موسى التاريخي، و تعاليم عيسى الإنجيلي، و وأحاديث بوذا وميثرا…وغيرها، لم تحظ فيها النفس البشرية بالأولوية والأهمية، ولم يسمح لها بالإفصاح عن حقيقتها و تطلعاتها، و هواجسها وآمالها…، فلأنها إما أسيرة العقيدة القومية و النزعة العنصرية كما هو مسطر في التلمود بشكل خاص، أو غارقة في المجردات والهرطقات الروحانية، بعيدا عن الهموم النفسية و الإجتماعية و العلاقات الإنسانية، كما الوضع في المذاهب الكبرى للهند وبلاد فارس والمذاهب الوضعية الأخرى.
و خلافا لذلك، شكلت عالمية الإسلام جسرا فوق وادي النزعات العرقية و الصراعات القبلية، في اتجاه السمو بالنفس، و الرقي بالسلوك والأخلاق الإنسانية.
فإيمان المرء وفق العقيدة الإسلامية، يجعله مطمئن النفس، مرتاح البال، قوي الصلة بربه، آمن بجواره، راض بقضاءه وقدره مهما ابتلي وأوذي، لا تشتته الهموم، ولا تضيق به الحياة و لا يتبرم بها…( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد/28.
والسر في ذلك كله، أن الرسالة المحمدية عليمة بالنفوس، وخبيرة بما يميز شخصية عن أخرى، وما يصلح لهذه دون تلك.
والشخصية السوية و غير السوية، هما خلاصة الإستقراء القرآني والحديثي لطبيعة النفس الإنسانية.
فالسوية تحمل بين جوانبها القيم الإيمانية، و علاقتها بمؤشرات المادة وأعراضها تبقى هامشية، بخلاف ما هو واقع في تصنيف مؤشرات السعادة عند الغرب !!! إذ الصحة النفسية ترتبط هنالك بقدر ما يحوز الرجل الغربي من المتعة والرفاه المادي…بغض النظر عما يعيشه من انحراف أخلاقي، و شذوذ سلوكي، أو ما يكون عليه من مخالفة ظاهره لباطنه، وما يعتريه من قلق بخصوص سبب وجوده فوق الأرض، ومصيره بعد الموت، وما يفزعه من مخاوف الإبتلاءات والمؤذيات، من فقر ومرض وموت….وغيرها من العلل النفسية والسلوكية التى تظل جاتمة على صدره لا تقوم عنه. يقول الباري جل جلاله ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ )، طه/ 124.
بنداود رضواني