الدين لله والوطن للجميع في ضوء الحرية كما أنظر إليها – حسن المرابطي

سبق أن انتشرت إحدى المقولات، وترددت على ألسن الكثير، بما فيهم الدينيين، فضلا عن اللادينيين، ومفادها أن: “الدين لله، والوطن للجميع”؛ ونجد أيضا أن هذه المقولة وظفت كثيرا من قبل مختلف الأطياف في إطار الانتصار لموقف دون الآخر، وقد ندعي أنه استعملت في غير محلها وبشكل متعسف، كما استعملت مقولة “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”؛ وكما نعلم فإنه على إثر اعتقال إحدى الفتيات المغربيات على خلفية نشر صورة لها مرتدية قميصا يتضمن محتوى مسيئا ل “الله”، لا داعي لذكره من شدة قبحه، إضافة أن الكثير قرأه في حينه، تم التفاعل مع الحدث في مختلف المواقع الاجتماعية، كما تم كتابة مقالات رأي بخصوص ذلك؛ ومن بين من كتب عن المقولة في محاولة للمشاركة في النقاش العمومي الذي خلفه اعتقال تلك الفتاة، هداها الله، نجد الصحفي المغربي يونس مسكين والقيادي في حزب العدالة والتنمية عبد العالي حامي الدين، وكذلك منتصر الساخي، وغيرهم.
لذلك أحببت المساهمة في هذا النقاش من خلال هذه المقالة المختصرة، لكن بصيغة مخالفة لما جرى عند من ذكرناهم أعلاه، لأنه تم التركيز على البعد الفلسفي لتلك المقولة المشهورة بعيدا عن التفاصيل التي همت قضية تلك الفتاة المغربية، فضلا عن محاولة إعطاء تأويل خاص للمقولة المستعملة، ولما لا استبدالها في آخر المقالة إلى عكسها انطلاقا من التأمل في النصوص الشرعية، لاسيما آيات بينات من الذكر الحكيم.
وعليه، قبل الخوض في أي نقاش، فإن الكثير ممن يلجأ إلى استعمال تلك المقولة إنما يقصد، في غالب الأحيان، أن الإنسان يمتلك كامل الحرية في الالتزام بالدين من عدمه، وأن لا أحد على هذه الأرض يحق له إرغامه على دين دون الآخر، كما أن تدبير، أو قل بأدق تعبير، أن هذا الوطن مشترك بين مواطنيه، وأن لا حق لأحد حيازته وحده، أو ادعاء امتلاك الأحقية في التصرف أفضل من غيره؛ أو قل بصيغة أخرى، إن هذه المقولة تستعمل، بكثرة، في الانتصار للتوجه القائل بفصل الدين عن الحياة العامة، لاسيما فصله عن تدبير الشأن العام؛ وهذا ما يدعو إليه أنصار العلمانية بكل وضوح؛ وفي المقابل، فإننا نجد بعض الدينيين يلجؤون إلى نفس المقولة وهم يرمون الانتصار لمبدأ الحرية الذي نص عليه القرآن الكريم، ويكونوا بذلك قاصدين التوكيد على أن حرية المرء في الاختيار بين الإيمان والكفر، مستشهدين بقوله عز وجل: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”؛ ولا بأس من التعليق على كثرة استعمال هذه المقولة، من كلا الطرفين، والذي نرى أنها ذات حمولة علمانية ولو بدرجات متفاوتة عند كلا الطرفين.
لذلك، فمن باب التذكير، لا خلاف عندنا أن الله منح الحرية التامة للإنسان في الاختيار؛ ولكن في المقابل، لابد من استكمال قراءة الآية الكريمة التي أكدت عن لا إكراه في الدين، حيث يقول تعالى: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”؛ وأيضا لا بأس من تأمل قول الله عز وجل في سورة الأحزاب: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا؛ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا؛”؛ وقوله سبحانه: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ”.
وعليه، إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة ليكتشف، بما لا يدع مجالا للشك، أن الله مكن الإنسان من حرية الاختيار، ومنع عنه الإكراه في الدين؛ إلا أنه لابد من وضع ذلك في ضوء باقي الآيات الأخرى التي حدثتنا عن الإنسان وعلاقته بربه، إذ بنفي الإكراه عنه في الدين، نجد في المقابل أنه امتلك اختيار حرية حمل الأمانة ورفضها، غير أنه فضل حملها دون غيره من المخلوقات؛ بمعنى آخر، فإن مطالبة الإنسان بتطبيق بنود هذه الأمانة لا يعتبر حدا من حريته بأي شكل من أشكاله، وإنما على العكس تماما، فإن في التزامه يعد آتيا بالممارسة التامة للحرية التي امتلكها في عالم الغيب وهو يختار الأمانة دون غيره من المخلوقات؛ وفي نفس المنحى، يمكن فهم العقاب الذي ينتظر الخائن للأمانة، والذي كان صاحب الحرية في رفضها كما هو حال المخلوقات الأخرى التي لن تخضع للحساب والعقاب.
لذلك، كيف يسمح الإنسان لنفسه اعتبارها في حالة الإكراه عندما يطلب منه الالتزام بالأمانة في ضوء هذه الآيات البينات من الذكر الحكيم؟ بل لماذا لا يتأمل مختلف الآيات البينات حتى يتذكر ذلك العهد مع الله، أو بلغة القرآن ذلك الميثاق؟ والذي إن تأملناه تذكرنا ما أصاب الإنسان من نسيان بخصوصه، والذي أشار إليه القرآن الكريم؛ ولعل الفرصة مواتية لدعوة كل قارئ الاطلاع على الفلسفة الائتمانية، التي قادها الفيلسوف طه عبد الرحمن انطلاقا من التأمل في مختلف الآيات القرآنية التي تحدثت عن الميثاق والأمانة، ولما لا محاولة التأمل عند قراءة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لإدراك قيمة الأمانة والميثاق الذي أخذه الله من الإنسان عموما، ومن الأنبياء والرسل خصوصا لتبليغ الرسالة.
وفي نفس السياق، ومن باب التأمل في نفس الآيات وباقي الآيات الأخرى ذات الصلة بالأمانة، كقوله سبحانه وتعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، فإننا نكتشف أن الإنسان ما هو إلا ذلك المخلوق المستخلف في الأرض الذي لا يملك شيئا، وإنما المُلك لله وحده، قال تعالى: “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”؛ وعليه، فإن تأملنا في باقي الآيات القرآنية، وكذا الأحاديث الشريفة النبوية المتعددة، لخلصنا بما لا يدع مجالا للشك أن الإنسان لا يملك مثقال ذرة في هذه الحياة الدنيا؛ بمعنى آخر، فإن هذا الوطن ليس ملكا لمواطنيه، وبالأحرى أن يكون ملكا لشخص أو فئة معينة، وإنما الكل فيه مستخلف ومستأمن على خيراته؛ أو قل بصيغة أخرى: أن الوطن الذي يعتبره البعض للجميع لا يجب أن يخرج عن مفهوم الاستخلاف والأمانة، وأن الاشتراك بين مواطنيه إنما الاشتراك في الأمانة وليس في الملكية، فالملكية لله وحده.
أما ما يخص كلمة “الدين لله”، فإن القرآن الكريم أكد على أن الدين عند الله هو الإسلام، إلا أنه في كثير من الآيات البينات ينسب الدين للإنسان، تأمل قوله سبحانه: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”.
بمعنى آخر، أن الدين الذي يظن البعض أن ملكيته تعود لله، بعدما سيطر على الأفهام في العصر الحالي، مفهوم معوج للملكية، حيث شهدنا سعي المرء إلى ادعاء ملكية كل شيء في نسيان تام لمفهوم “الأمانة”؛ بل سعى محاولا تشيئ حتى ما هو معنوي، وجعله في حكم ما هو مادي؛ لذلك عندما تحدث الإنسان المعاصر عن الدين وحاول امتلاكه لم يستطع، فأرجع ملكيته لله ظنا منه أنه سيتخلص من التزاماته؛ كما أنه عمل جاهدا لابتكار دين جديد يضعه في ملكيته ليتصرف فيه وفق ما تقتضيه مصالحه، أو قل بشكل أدق، ما تتطلبه مطامعه وأهوائه، قال تعالى: “فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”؛ والحال أن الدين إنما هو أسلوب حياة الفرد والمجتمع في هذه الحياة، بلغه الرسل والأنبياء في إطار الأمانة التي كلفوا بها لتبليغه، كما أن الإنسان مكلف بالالتزام به لأنه يدخل ضمن الأمانة التي قبل بها.
لذلك، إن كان، ولابد، من سبيل للحديث لمن تعود الملكية بخصوص الدين، فإن الإنسان هو صاحبه، لكن بما يجعله أسلوب تنظيم تصرفاته بشكل عام، وقد واثق الله على ذلك؛ وبكلمة أخيرة، فإن الدين حتى إن كان من الله، فإن المعني به هو الإنسان، فهو له، وبتطبيق مفهوم الأمانة فإن الدين للناس، وليس لله.
وعلى سبيل الختم، وفي إطار التفاعل مع النقاش حول مفهوم الحرية عندما يتعلق الأمر بالخروج عن الدين، وكذلك في احتقار أحكامه، بل استفزاز أكثر من ملياري مسلم بكلمات السب والشتم لكل ما له علاقة بالإسلام، لا بأس من التذكير أن الحرية ليس بالضرورة لتعريفها ربطها بالعالم المادي الفاني في نسيان تام للعالم الغيبي الذي نؤمن به؛ وإنما لابد من استحضاره، حتى ندرك حقيقة الأشياء بعيدا عن التأثر بالفلسفة المادية الطاغية في عصرنا اليوم؛ بل لابد من التأكيد على أن صياغة المفاهيم وتعريفها ليس بالمنطقي فعل ذلك في تجاهل لديننا، وللقرآن الكريم الذي يؤمن به كل من يحاول تقليد الغير في صياغة المفاهيم؛ ولهذا نستغرب فعل نقل مفاهيم الغير دون تمحيصها بعرضها على ما عندنا من المسلمات، حتى كدنا نرى البعض يقبل أي شيء آت من هناك ويرفض ما وجد عليه من ثقافة عند أجداده، بحجة اجتناب التقليد، وفي المقابل لا يجد حرجا في تقليد غيره الذي استمد ثقافته من ثقافة دينية محرفة في غالب الأحيان.
وعليه، بكلمة أخيرة نقول: “إن الوطن لله والدين للجميع”، بمعنى أن ملكية الوطن لله ونحن مستخلفون فيه كما يقتضي ديننا، وليس كما تقتضي أهوائنا التي اتخذت أشكالا مختلفة.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.