مقالات رأي

الدستورية والتحولات الجيوسياسية – نورالدين قربال

توطئة:

إن الدستور وثيقة تتسم بالسمو لأنها البوصلة المرجعية لكل ما يصدر عن الدولة والمجتمع، والقانون الدستوري دراسة أكاديمية للمتن الدستوري باعتبارها توظف كل العلوم المتاحة لتقريب المفاهيم الدستورية. أما الدستورية فهي مصاحبة علمية وواقعية للمسلسل الدستوري قبل الوضع إلى التعديل وما بعده. بذلك نؤكد على أن الدستورية مسلسل تعتمد في مسارها على الأنظمة والنظريات المتعددة الأطراف. انطلاقا من هذه المقاربة سنتناول هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: الدستورية الدلالة والامتداد

ينطلق الاختلاف في المعايير المحددة لدلالة الدستور نفسه، وهذا طبيعي في موضوع يتخذ أبعادا اجتماعية وإنسانية. فمنهم من ركب صهوة اللسانيات من أجل الغوص في جدلية الدال والمدلول. عنوانه الأكبر: البناء والتكوين. أي بناء دولة وتوزيع سلط وحماية حقوق. هذا المنحى فتح مجالا واسعا للاجتهاد انطلاقا من دائرة التأسيس، مما نفى عنه صفة التميز عن المشاع من العلوم. أمام هذا الوضع برز آخرون فاعتمدوا الدال دون استحضار عمق وأبعاد المدلول. كيف ذلك؟

لقد اعتمدوا على ما بين الدفتين دون الخروج من هذا الأفق الضيق. هذا غير لائق بقانون يتصف بالسمو التشريعي، وتشتغل عليه الدستورية من الحياة إلى الممات بالمفهوم المجازي، ويتعارض مع مفهومي الحرية والسلطة. ناهيك عن الأعراف والتقاليد التي تشكل جوهرا داخل كل دلالة يتوخى لها الاستمرارية.

أمام هذا العطب الدلالي برز نقيضه بالاعتماد على المدلول دون الالتفات إلى الدال. كيف ذلك؟

هذا الاختيار ينقب على كل اجتهاد دستوري بغض النظر على مبدأ السمو، يريد أن يسوي الكل في إطار امتداد أفقي بعيد عن العمودية “المساواة التشريعية”. أمام هذا الاختيار تعددت الاجتهادات:

-ضرورة وجود قانون تخضع له سلطة الدولة حتى نحمي الحقوق والحريات الأساسية من التجاوزات. في هذا المقام يطرح سؤال مفهوم الدولة؟ الجواب الطبيعي أن الشعب يدخل في مفهومها والمؤسسات السياسية وغيرها إذن الدولة ليست دائرة مغلقة. لذلك في نفس الاهتمام بالمدلول دون الدال برز اجتهاد آخر اهتم بالسلطة والاختصاصات انطلاقا من مرجعية فلسفية تتخذ أبعادا سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية، مع استحضار الأبعاد الابستمولوجية تولدت عن الاختيار الفكري والمعرفي. يظن أصحاب هذا الاجتهاد أن القانون الدستوري يتجاوز السياسة إلى مجلات أخرى. هذا صحيح لكن العلوم المستعان بها لا تشتغل إلا بالقرار السياسي.

تخلص الدستورية من خلال هذه الجولة في الدال والمدلول من خلال امتداداتها عل مستوى الدول والمجتمع إلى ما يلي:

إن المقتضيات الدستورية تتجاوز ما بين الدفتين إلى أفق مفتوح انسجاما مع مفهوم السمو على رأسها القوانين التنظيمية المفسرة للدستور في إحدى جوانبه، إضافة إلى التأويلات والتدقيقات الواردة من المحكمة الدستورية سواء على مستوى النظر في الإحالات وجوبا أو بشروط مقننة أو التحكيم بين السلط أو غير ذلك، إضافة إلى اجتهادات مدنية في إطار الديمقراطية التشاركية.

كما أن هناك بابا آخر من الواجب أخذه بعين الاعتبار ألا وهي الممارسة السياسية للمقتضيات الدستورية انطلاقا من أن الدستور تأصيل للاختيارات السياسية، والسياسة محك لدمقرطة التنزيل.

المحور الثاني: جدلية الحداثة والتعديل الدستوري

كثر الحديث عن الحداثة وامتداداتها على المستوى الفردي والجماعي، الدولة والمجتمع، الإنساني والطبيعي. فهل يمكن أن نرصد بعض العلاقات العضوية بين الدستورية والاختيار الحداثي؟ هل الحداثة نقيض التقليدانية؟  الجواب على هذه الأسئلة يجعلنا منغمسين في مرجعيات فلسفية وابستمولوجية، هذا المسار يحتم علينا الاستقلالية من الأيديولوجية الضيقة المصطدمة مع العالمية ومع الأعراف التي تشكل مصدرا استراتيجيا لصنف كبير من المقتضيات الدستورية.

من تم لا تتعارض الدستورية مع الاجتهادات الفكرية وتطورها لكن مع استحضار طبائع السلطات العمومية والمؤسسات المنتخبة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، أثناء توزيع السلط، والاختصاصات والرابط العضوي بينها في إطار التعاون والتوازن. مع إبقاء الحياة مستمرة بين القاعدة والدراسة.

إن الدستورية أفكار قبل أن تتحول إلى قواعد، طبعا نحن نتعامل مع مقتضيات لكن بعيون فكرية وسياسية تستحضر كل المكونات من أجل حسن تنزيل المتن الدستوري الذي يظل جامدا إذا لم يتناغم مع الاختيار الديمقراطي. بهذا المنحى نتجاوز الصراع المفبرك بين علمي القانون والسياسة. بذلك فالدستورية تطابق بين العلمين، فلا قانون بدون سياسة ولا سياسة بدون قانون.

المحور الثالث: الدستورية وشبكة المناهج

وظفت كلمة شبكة، لأن الدستورية كما سبق ذكره مصاحبة دائمة للمسار الدستوري، وكون المنهج يمتح مشروعيته من اختيارات فكرية، وكون هذه الأخيرة متعددة ومتنوعة فمن الطبيعي أن نحصل على مقاربات منهجية وليس مقاربة واحدة. فماهي أهم المقاربات التي احتلت مساحة كبيرة في الاختيارات الدستورية؟

إن المنهج المؤثر في الاختيارات الدستورية هو العلوم القانونية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. يمكن إضافة مجالين مهمين اليوم الاختيار البيئي والرقمي.

بناء على هذا الإطار العام يمكن استحضار القضايا المنهجية التالية:

  • الاعتكاف على ما بين الدفتين دون الانفتاح على ما يمكن أن يعقلن الممارسة الدستورية، لأن هناك تحولات في الأبعاد الجيوسياسية والاختيارات الاستراتيجية.
  • الركون إلى إيديولوجية معينة من أجل فهم المقتضيات الدستورية بمعنى أن هذا الاختيار ما زال يلوك ثنائية الحرب الباردة لذلك ظل جامدا رغم تقلب الأجواء المناخية الفكرية.
  • استنساخ تجارب دولية من أجل الإنتاجات الدستورية دون الأخذ بطبائع الأنظمة السياسية، والأنثروبولوجية الفكرية.
  • الركون إلى التاريخ ليس للاستئناس وتجديد ما يمكن تجديده، بل جعله هو الأساس في بناء الدستورية “وفاء للترات” دون التمييز بين الظني القابل للإبداع والفراغ التشريعي المؤهل لملء الفراغات الفكرية المؤهلة لمسار التطور الدستوري.
  • الاعتماد على الأنثروبولوجية السياسية بناء على تحديد المهام المتوخاة من الدستورية، في أفق الترتيب والتناسق. من أهم المبادئ التي يعتمدها هذا المنهج نذكر ما يلي:
  • التناغم بين جميع الأطراف المساعدة في المقاربة.
  • التوازن والتعاون مع الاحتفاظ على خصوصية الذات.
  • النمذجة واستحضار الأمثلة من أجل البرهنة والتعليل بالحجج.

إنه منهج يضمن الاستمرارية والبناء الموضوعي، والتدرج في التنزيل على حسب الزمكان، والدعم التكاملي بين الأطراف المشتركة في البناء والتكوين، رغم الأدوار الموزعة بين الجميع. بهذا نضمن الحماية للوجود الدستوري نظريا وممارسة. يمكن أن يشمل هذا المنهج كل العلوم المرتبطة بالدستورية.

مما يعطي لهذا الاختيار المنهجي أنه يتوفر على قابلية لتوسيع حقل الدال والمدلول وتداعيته السياسية. من تم لابد من دمقرطة تنزيل المقتضيات الدستورية حتى لا تبقى الدراسات حبرا على ورق.

مخرجات واستنتاجات

إن أي مشروع متعلق بالدستورية ينطلق أصلا من قيم ومبادئ، وهذا من باب التحصين الدستوري من العبثية والعشوائية والسطحية، والذي لا يمكن أن نعزله عن المؤسسات والنظريات السياسية. إن الدستورية مسلسل لا يتوقف على الدراسات والأبحاث. لا يمكن كذلك إهمال جدلية الدال والمدلول في تفسير وتأويل المتن الدستوري في علاقاته بالمحيط الإقليمي والدولي خاصة على مستوى القانون الدولي العام والقانون الإنساني ومنظومة الحريات والحقوق الأساسية.

إن الانتقال من ربط القانون الدستوري بالمؤسسات السياسية إلى علم السياسة دليل على العلاقة بين القطبين. كل هذا يخدم دولة القانون، والمجتمع التواق إلى العدالة الدستورية وانعكاساتها على الاختيارات التنموية. باعتبار أن هناك جدلية بين السياسة والقانون، وهذا لا يعني أن العالم بلخ أشده الدستوري، بل إن ما يقع اليوم من تحولات جيوسياسية تحتم التغيير الاستراتيجي، الذي من الواجب أن يساهم فيه الجميع، حتى نتجاوز منطق الغالب الذي ينظر والمغلوب الذي يلائم مما يضر بمبدأ العيش المشترك.

إن نجاح الدستورية مرتبط باحترام الاختيار الديمقراطي، ومراعاة التحول السوسيولوجي ونظرياته المتنوعة، في إطار علم الاجتماع السياسي وتأثيره على مسلسل الدستورية.  

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى