الثبات والتغير في الأحكام الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على صحبه وسلم وعلى اله أجمعين أما بعد،
حضرات الإخوة الكرام حفظكم الله
موضوع الكلمة اليوم يتعلق بالثبات والتغيير في الأحكام الشرعية، وهذا موضوع مطروق من قديم عند الفقهاء والأصوليين، ولكنه كما تعلمون هذه الأيام يطرق الأسماع والأذهان بقوة ونحن في زمن تشن الحملات تلو الحملات على أحكام الشريعة لتنحيتها أو تنحية ما تبقى منها بدعوى التغيير والتطور وبدعوى أن هذه الأحكام قديمة وضعت لعصور قديمة وظروف قديمة فيجب تغيرها، ونجد دعاة هذا التغيير ما بين مقل ومكثر ومن لا يبقي ولا يذر شيئا، فلذلك رأيت أن أتناول هذه المسألة حتى لا نقع في الغلو لا مسايرة للتغيير اللامحدود ولا برد فعل يرفض أيضا كل تغيير، فالتغيير وارد في أحكام الشريعة في بعضها والثبات وارد وهو الأصل في ذلك، فإذن الشريعة الأصل فيها هي أنها جاءت خاتمة الشرائع وجامعة لفضائلها وأصولها وثوابتها وهيمنة عليها كما وصف القران الكريم بأنه مهين على الكتب قبله بمعنى استوعبها، وتضمن أهم ما فيها، واحتوى ما ينبغي بقاؤه منها، وتجاوز ما كان يستحق التجاوز لأن الله تعالى يقول “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”، فتغير الشرائع بعض التغير وارد دائما وفي شريعتنا بما أنها الشريعة الخاتمة لا يمكن أن يكون كل شيء فيها لا يتغير على مدى زمني لا ندري متى، إذا إذا كانت سنة الله أن الشرائع يقع في بعض التغير من نبي لآخر ومن رسالة لأخرى، فكذلك شريعتنا هي بمثابة شرائع متجددة على مر العصور، ورسالة نبي البشرية صلى الله عليه وسلم هي بمثابة نبوات ورسالات متجددة يتبث فيها ما يجب ثباته ويتغير فيها ما يمكن تغيره فهذه هي المسالة فالأصل في الشريعة في القران الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنها دائمة عامة لكنها تسمح ببعض الملائمة والمواكبة لما يجد ولما يتغير تغيرا حقيقيا في حياة الناس أفرادا ومجتمعات.
وبما أن الثبات هو الأصل فهو الغالب وهو الجزء الأكبر والأهم من الشريعة ويعرفه الجميع فكل من يؤمن بالشريعة فهي شريعة للعالمين وشريعة ليوم الدين فإن الذي يحتاج لشيء من التوضيح هو لهذه الجوانب التي تتحمل التغير فإذن أوضحها وما سواها فهو على أصله وعلى ثباته إلى يوم القيامة.
وعلى العموم فالشريعة المنزلة باعتبارها شريعة الفطرة أحكامها ثابتة في ما هو ثابت وراسخ في نفسيات الناس ونزعاتهم وعلاقاتهم وصفاتهم العميقة المتجذرة بينما لها أحكام مرنة متسعة قابلة للتلائم مع ما هو متنوع ومتغير من أحوال الناس وعوائدهم وأعراف مجتمعاتهم وما فيها من تطورات وتقلبات في أنماطها وأشكالها، فأمر الشريعة في التغير شبيه بالفطرة، فنحن على أمور نفسها التي كانت في آدم وفي ذريته ونوح وذريته وإبراهيم واسماعيل فهي أمور ثابتة في البشرية وفي الفرد والحياة الاجتماعية وفي العلاقات، وهناك أمور متغيرة وكذلك الشريعة ففيها ما هو ثابت وما هو متغير بحسب مقتضيات الفطرة وطبيعة الحياة البشرية والكيان البشري، وعموما الأمور العميقة والمتجّذرة والباطنة هي ثابتة كأمور العقل والروح والنفس والعواطف والعلاقات والأحاسيس والانفعالات كلها أحكامها ثابتة، أو فيها أكبر قدر من الثبات، والأمور الخارجية والشكلية هي التي فيها التغيير.
ثانيا أحكام الشريعة كما هو معلوم فيها قطعيات وظنيات، فالأمور التي أرادها الله تعالى أن تكون ثابتة لا تحتمل تعدد التفاسير ولا تعدد التأويلات جعلها قطعية وأقام فيها الحجة فجعلها قطعية الثبوت قطيعة الدلالة فما كان قطعيا فهو ثابت لا يتغير، إلا ما كان مرتبطا بعلته كما سنرى، وما كان ظنيا وهذه حكمة الله أن جعل بعض الأحكام ظنية فمعناه أن فيها فسحة للنظر وتعدد الأنظار لاستنباطات وتعدد التأويلات وفي مثل هذا قال العلماء اختلاف العلماء رحمة أو قالوا اجتماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، فما كان محتملا ففيه مجال للتغيير والمراجعة ولكن كل ذلك بأدلته ومنهجيته وليس بطريقة مزاجية أو شهوانية.
وأحكام الشريعة كذلك منها ما هو مقصود ومطلوب لذاته وبذاته، ومنها ما هو مطلوب بغيره، وهو تقسيم موجود ولكن للأسف غير شائع ولم يتم الاهتمام به على نطاق واسع لتمييز ما هو مطلوب وما هو مطلوب لعيره ولكن التقسيم موجود ومسلم عند العلماء. وبناء على هذا ما هو مطلوب طلب مقاصد فهو لا يتغير لان مقاصد الشرع لا تتغير ما قصده فقد قصده ويجب أن يبقى مقصودا بعينه إلى يوم القيامة، وهناك ما طلب لأجل غيره لا لذاته لولا أن غيره من النتائج كانت وراءه لما طلب، وهذا كثير فيه التغير بالمقاييس التي اذكرها، فالصنف الأول ثابت لا تغيير فيه والثاني يمكن فيه التغيير والتطوير والاستبدال.
وأحكام الشريعة عمدتها إقامة الفرائض والضروريات واجتناب المفاسد والمحرمات، فهذه عمدة الشريعة من كان فريضة وركنا وضروريا هذا ثابت لا يتغير وكذلك بجانبه ما كان فيه مفسدة وما كان محرما ومنكرا، وأما تتمة الشريعة ففي المكروهات والمندوبات والمباحات، اجتناب المندوبات والاستمتاع والتصرف في المباحات أمور تكميلية للشريعة الأساسية ، هذا التقديم ينبني عليه في موضوعنا أن القسم الأول يتسم بالثبات ويسود فيه خطاب العزم والحتم والتأكيد، والقسم الثاني فيه مجال للترخيص والتخيير والتغيير إذن التغيير يكثر في المندوبات والمكروهات والمباحات ويبلغ ذروته في المباحات التي هي أوسع الأحكام مساحة وأكثرها عددا، وهذه أمثلة لكل ما سبق :
أولا الوسائل المحضة، التي لا غرض للشرع فيها وإنما غرضه فيما تستعمل له، الوضوء وسيلة للصلاة ولكنه مقصود لأنه عبادة في ذاته، وهذه الوسائل المحضة قد تسقط وقد تصح مرجوحة ومفضولة ولو كانت منصوصا عليها ، حتى ما ورد به النص افعلوا كدا وقولوا كدا واعملوا بكدا، قد يصبح مرجوحا أو متروكا بالمرة إذا ظهرت وسيلة أفضل أي إن وجدت وجد وإن زالت وزال، ومن هذا القبيل مثال : سهم المؤلفة قلوبهم، الذي توقف في خلافة أبي بكر وإن كانت المبادرة من عمر بمعنى بمجرد وفاة الرسول وبعد فترة ليست بالطويلة ارتأى أن المؤلفة قلوبهم لم يعد لهم معنى ولذلك يجب إيقاف عطائهم وهذا المثال يمكن أن يكون مما سبق من الفقهاء ومن الصحابة أيضا أي أنهم يقولون إن المؤلفة قلوبهم شيء خاص بالزمن النبوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعرفهم والذي كان يعطيهم ولا أحد يعطيهم بعد ذلك، فعلة المؤلفة قلوبهم موجود بالاسم في النصوص والقران سماهم باسمهم كانوا يعطون لتأليف قلوبهم ومنهم من كان يرجى إسلامهم ومنهم الذين اسلموا ويراد تثبيتهم ومنهم الذين لم يسلموا ولا يرجى إسلامهم ولكن يدفع شرهم وأيد ذلك القران ولكن المتفق عليه بين العلماء أن هذا السهم توقف ولكن هل يعود أولا يعود هنا الخلاف.
المثال الثاني النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فكلما احتيج إلى هذا الحكم يعمل به، وإذا استغني عنه ترك، ثم الصنف الثالث وهو تقييد المباحات ومنعها في بعض الحالات، ولذلك سبق أن قلت إن المباحات هي ذروة ما فيها التوسعة وإمكانية التصرف بالتقييد والإلغاء، وهنا اشتهرت عبارة العلماء والفقهاء وهي تقييد المباح أي أن المفتين والقضاء وولاة الأمور يجوز لهم تقييد المباح لأن المباح ليس مطلوبا شرعا فلا نوقف شيئا طلبه الشرع، إنما أباحه والمباح لا حدود له يمكن تركه حتى بدون منع من احد، ويمكن للإنسان أن يترك عددا من المباحات في حياته كلها فالمباح مسالة وواسعة وهو كثير ليس كالفارض والمحرمات، فإذا كان لأسباب معقولة تقييده تقييدا ملزما من الدولة أو من أولي الأمر وإن كان لأسباب معقولة أو مصلحة حقيقية وهنا نذكر مثال تعدد الزوجات الذي تم تقييده في القانون المغربي في مدونة الأسرة هو من حيث المبدأ تقييد معقول ولا غبار عليه من الناحية الشرعية وطبعا الذي يخشى هو التقييد التعسفي، وكل تقييد معقول ولأسباب معقولة ولمصلحة معقولة فهو سائغ في حق الحاكم وقد يكون واجبا بحيث إذا أصبح استعمال المباح استعمالا سيئا فالتقييد هنا يكون واجبا.
وفيما بلغني أيام بورقيبة حينما وضع مجلة الحاكم في تونس كان من بين ما كان يستهدفه أن يضع المساواة في الإرث وكان عازما عليه وكان لديه مفاوضات وضغوط شديدة مع الفقهاء في أمور أخرى مثل التعدد، فالشيخ بن عاشور رفض رفضا باتا مسالة المساواة في الإرث فلما جاءه مبعوث ورقيبة قال له يريد الرئيس أن يزيل التعدد ويمنعه قال له هذا مباح بينما في الإرث رفض رفضا باتا لأن الرث وصف في القران بأنه فريضة. فحكم المباح يختلف والمخالفة فيه هينة ومكان هذا التصرف له ما يسوغه.
وقد اعترض النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا شديدا وباتا على علي حينما أراد أن يتزوج على فاطمة ولكنه قال أنا لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما حرم الله إذا أصر علي أن يتزوج من ابنة أبي جهل فليطلق فاطمة، فعدل علي فهذا الرفض من النبي هو رفض لشيء مباح فمن حقنا أن نعترض ومن حقنا أن نتحاشاه أو نقيده الخ، وكذلك قيد وضيق عمر رضي الله عنه الزواج من الكتابيات رغم أنه مباح بالنص، حيث منعه على بعض ولاته فهو مباح يمكن للحاكم أن يمنعه إذا رأى فيه ضررا أو فسادا أو فتنة وطبعا الفساد في المباح إنما يأتي من استعمالات معينة .
ثم المثال تقيد ومنع بعض المكاسب والمهن التي كانت مباحة ولكن أصبحت من الممنوعات، والمهم في المباح أن لا يصل إلى حد التحريم قد يواجه بالتضييق أو المنع أو التقييد وفرض شروط فهذا هو السائغ، وأخيرا أشير إلى ما يسمى بتصرفات النبي بالإمامة وهي أيضا قابلة للتغير بتغير الظروف ومثلها تصرفات تكون معالجات آنية وموضعية فإذا لا يلزم العمل بصيغتها وبشكلها وحذافيرها على ولاة الأمور فيما بعد وهي كثيرة جدا وقد فصل فيها القول الدكتور سعد الدين العثماني في عدد من مؤلفاته وخاصة منها كتابه التصرفات النبوية السياسية وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.
د. أحمد الريسوني / سلسلة تبصرة