مقالات رأي

التنشئة غداة يوم الطفولة: معالم قرآنية من وحي سورة الكهف – سحر الخطيب

تتجلّى عظمة القرآن في إيحاءاته التي تمعن في أعماق النفس، فترسم للمرء معالم رحلته منذ النشأة الأولى حتى الاكتمال. وفي طيات سورة الكهف، رغم تركيزها على محن الشباب وفتن الدهر، تبرز لمحات عن منبع الفضائل وأصل الثبات: الطفولة.

إن الطفولة ليست مجرد مرحلة عابرة، بل هي اللبنة الأساسية في بناء الشخصية، والأرض الخصبة التي تُغرس فيها القيم والمبادئ. ولقد ضرب الله لنا في كتابه العظيم أمثلة رائعة تؤكد على هذه الحقيقة.

قصة فتية الكهف.. الطفولة التي أنقذت جيلاً

تأملوا معي في هؤلاء الفتية الذين نشئوا في بيئة فاسدة، محاطة بالشرك والضلال، لكنهم خرجوا منها مؤمنين ثابتين. ما السر؟ لقد كانت تربية الطفولة هي المنبع الذي استقوا منه إيمانهم. إنهم لم يصلوا إلى هذه الثبات فجأة، بل هي ثمرة غرس مبكر في قلوبهم الطاهرة.

 خبرت هذه الناشئة المتميزة، فتية الكهف، عناية هامة تمثلت في:

  • التربية على التوحيد: فنشئوا وهم يعرفون ربهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) الكهف : “.(13
  • التربية على الشجاعة: فلم يخافوا أحداً إلا الله، واختاروا الهروب بدينهم: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ (الكهف : 16).
  • التربية على الثبات: فصمدوا أمام فتنة قومهم، ورفضوا المساومة على دينهم.

إن هذه دعوة لاغتنام سنوات الطفولة الذهبية، فالعصافير التي تُربى على الطيران لا تخشى السقوط.

قصة أصحاب الكهف مثال لشباب في مرحلة المراهقة أو ما قبل الرشد، تعكس معاملتهم الأسس السليمة لتربية الطفل.

فالطفولة والمراهقة يمثلان مرحلة تكوين الهوية والإيمان

أصحاب الكهف لم يكونوا أطفالاً صغاراً، بل كانوا فتية في مقتبل العمر، وهي مرحلة تكون فيها الشخصية والعقيدة في أوج تكوينها.

ثم إن التربية الإيمانية في الصغر هي التي تُثمر هذا النضج والإيمان الراسخ في مرحلة المراهقة. فالفتية لم يصلوا إلى هذه القوة فجأة، بل نتيجة لأسس إيمانية وغرس قيمي في طفولتهم. فقد نضجوا مبكرا: يقول تعالى :إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى  (الكهف: 13). لقد آمنوا بربهم في سنٍّ قد ينجرف فيه الكثيرون وراء المغريات. هذا يدل على أن مرحلة الشباب والمراهقة ليست مرحلة ضعف حتمي، بل يمكن أن تكون مرحلة قوة إيمانية ونضج فكري إذا تمت تنشئتهم تنشئة سليمة في طفولتهم.

قصة أصحاب الكهف تبرز أهمية دور البيئة الأسرية والمجتمعية المحيطة بالطفل: تذكرنا القصة بأنه حتى في أحلك الظروف وأكثر البيئات فساداً، يمكن أن ينشأ جيل مؤمن قوي. هذا يضع مسؤولية كبيرة على الأسرة في أن تكون حصن الطفل المنيع ضد تأثيرات البيئة الفاسدة، وأن تغرس فيه مناعة فكرية وإيمانية تمكنه من قول “لا” للباطل. عاش الفتية في مجتمع كافر يعبد الأصنام، مما يعني أن بيئتهم الاجتماعية والأسرية (على الأرجح) كانت مضادة لعقيدتهم:  “هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين”)الكهف: 15 )

 وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ( )الكهف: 14) .

الهروب بالإيمان: قرار شجاع نابع من تربية قوية

لم يوافق الفتية على واقعهم المنحرف، فلم يختاروا الانصياع أو المساومة، بل اختاروا الهروب بدينهم. هذا القرار الشجاع هو نتاج تربية جعلت حب الله وخشيته فوق كل شيء. التربية السليمة تنتج أفراداً لديهم الشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية الصعبة والدفاع عن مبادئهم، حتى لو كان الثمن هو الفرار من الأهل والوطن . فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ) (الكهف: 16).

التوكل على الله: الثمرة الحقيقية للتربية الإيمانية

لم يعتمد الفتية على قوتهم أو حيلتهم فقط، بل لجئوا إلى الله متوكلين. هذا التوكل هو أعلى درجات الإيمان وهو ثمرة التربية التي تركز على علاقة الطفل بربه. هذا يمنحهم قوة نفسية هائلة وطمأنينة لا يوفرها أي شيء آخر.

  الحماية الإلهية: جزاء المربَّى على الإيمان

أنزل الله تعالى برحمته على الفتية في الكهف، فحفظهم وأمّنهم وجعل منهم آية للناس. هذه الحماية الإلهية كانت جزاءً لإيمانهم وثباتهم. عندما نربي أطفالنا على الإيمان والتقوى، فإننا لا نضمن لهم سعادة الدنيا فحسب، بل نحيطهم برعاية الله وحفظه التي هي خير من كل شيء. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) الكهف: 18 (.

من خلال قصة أصحاب الكهف، تقدم سورة الكهف رؤية للطفولة والمراهقة مفادها:

الطفولة هي أساس البناء: ما يراه الناس من ثبات وشجاعة في الشباب هو في الحقيقة ثمرة لما غُرِس في الطفولة.

الطفل ليس كائناً ضعيفاً:  بل هو مشروع بطل وقائد يمكن أن يكون له شأن عظيم إذا أُحسن تربيته.

التربية هي بناء مناعة ضد الانحرافات الفكرية والمجتمعية، وليست مجرد تلقين معلومات.

الهدف الأسمى  هو إخراج جيل يقدِّر إيمانه فوق كل شيء، ويواجه العالم بشجاعة وتوكل على الله.

أما القصة الأخرى من سورة الكهف، فهي قصة موسى مع العبد الصالح. نجد فيها منهجا عمليا في التربية. نجد منهجاً تربوياً ربانياً رائعاً، يقدمه لنا العبد الصالح في تعامله مع موسى -عليه السلام-.

إذا كانت قصة أصحاب الكهف تعلمنا كيف تثمر الطفولة الصالحة شَباباً مؤمناً، فإن قصة موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف تقدم لنا لوحة بديعة في فن تربية المتعلم وبناء شخصيته، من خلال حوار نبيٍّ كريم مع حكيمٍ وهبه الله من لدنه علمًا.

النشء المتسرع.. والتربية بالصبر

انظر إلى موسى -عليه السلام- في بداية القصة، تجد صورة للشاب المندفع المتسرع: قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(الكهف: 66). إنها صورة تعكس حماسة الشباب وعدم تقدير التعقيدات. فالصبر هو أساس التربية، والنبتة لا تسقى مرة واحدة ثم تترك.

فما كان من العبد الصالح -ذلك المربي الحكيم- إلا أن اشترط عليه شرطاً واحداً يجسد أساس التعلم والتربية: قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا  (الكهف: 67). ثم يؤكد على أهمية الصبر في تلقي العلم: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا )الكهف: 68 (.

ألا نرى كيف أن الصبر هو الأساس الأول في بناء عقل الطفل وروحه؟

النشء الفضولي.. والتربية بالتدرج

لقد أظهر موسى -في هذه القصة- فضولاً طبيعياً لمعرفة الحكمة من وراء الأفعال. وهذا ما نراه في أطفالنا حينما يكررون سؤال “لماذا؟”.

لكن الحكيم العابد لم يشرح له الحكمة في لحظة الفعل، بل كان يقول: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (الكهف: 72). إنه يربيه على فضيلة الانتظار، ويربّي فيه قدرة التأمل، ويُعدّه لاستقبال الحكمة في وقتها المناسب.

التربية على التواضع : من التسرع إلى الاعتراف بالخطأ

انظر إلى تحول موسى -عليه السلام- من الشاب المتسرع إلى المتعلم المتواضع: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (الكهف: 73). إنها صورة رائعة لتعلم الاعتراف بالخطأ والاعتذار – فضيلة يجب أن نغرسها في أطفالنا.

التربية بالأحداث لا بالمواعظ

لقد استخدم العبد الصالح -عليه السلام- أسلوب التربية بالقدوة والموقف، فلم يلقِ على موسى موعظة نظرية، بل اصطحبه في رحلة عملية رأى فيها أحداثاً واقعية. وهذا ما ينبغي أن نفعله مع أطفالنا: أن نربيهم بالمواقف لا بالكلمات فقط، بالقدوة لا بالتوجيه فقط.

الحكمة الخفية.. والثقة بالله

في نهاية الرحلة، تكشفت الحِكم العظيمة من تلك الأفعال التي استعجل موسى في الحكم عليها: خرق السفينة، منع ضرر يصيب أبوين مؤمنين، حفظ مال يتيمين. إنها دروس في:

  • التخطيط الطويل في تربية الأطفال (حفظ المال للصغيرين حتى يبلغا)
  • الرحمة بالوالدين المؤمنين
  • الثقة بحكمة الله حتى في ما يبدو مؤلماً

إن قصة موسى مع العبد الصالح تقدم لنا منهجاً متكاملاً لتربية أطفالنا:

  • التربية على الصبر فلا تعجل بنتائج التربية
  • تقبل فضول الطفل مع تدريبه على فن الانتظار
  • تعلّم الاعتذار فهو باب التواضع والعلم
  • التعلم بالمواقف قبل التوجيهات
  • الثقة بالحكمة الإلهية في كل ما يحدث.

إن أطفالنا أمانة في أعناقنا، وهم هبة الله لنا. فلنستثمر في طفولتهم كما استثمر أولئك الآباء في فتية الكهف، ولنربهم كما فعل العبد الصالح مع تلميذه.

فالطفل الذي ينشأ على طاعة الله، لا يمكن إلا أن يكون شاباً ثابتاً في زمن الزيغ، ورجلاً صالحاً في زمن الفتن.

أكتب وفي قلبي حرقة، وفي عيني صورة طفل غزة.. مشهد الطفل الذي يبحث بين الركام عن حياته، عن أهله، عن طفولته. طفل يحمل في عينيه قسوة العالم، وفي قلبه سؤالاً عن ذنبه الذي اقترف.

في هذه اللحظات الأليمة، نتساءل: أين تكمن قوة الطفل المسلم؟ وكيف نصنع من أطفالنا جنوداً لله لا تهزهم العواصف؟

لقد جاءت الإجابة في كتاب الله، في قصة فتية الكهف وقصة موسى مع العبد الصالح.

انظروا إلى أطفال غزة اليوم، أرأيتم كيف يقفون صامدين كالجبال؟ إنهم يذكروننا بفتية الكهف المؤمنين الثابتين.

لقد ربى آباؤهم في قلوبهم حب الله، فلم تزعزعهم قسوة معاشهم، ولم تهزمهم شدة محنتهم. وهكذا أطفال غزة.. تربوا على حب الله والثبات على الدين، فصمدوا أمام أعتى قوى الأرض.

التربية في زمن العاصفة

وفي قصة موسى مع العبد الصالح نجد المنهج الرباني لتربية الأجيال في زمن المحن:

  • التربية على الصبر في مواجهة البلاء: “إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا”
  • التربية على الثقة بحكمة الله حتى في أصعب اللحظات.
  • التربية على الشجاعة في قول الحق والدفاع عن المظلومين.

إن أطفالنا في كل مكان يحتاجون اليوم إلى تربية فتية الكهف.. تربية تُخرج منهم رجالاً ونساء لا يخشون في الله لومة لائم. فلنغرس في قلوب أطفالنا:

  • حب الشهادة بدلاً من خوف الموت
  • كرامة الإسلام بدلاً من ذل المساومات
  • قوة الإيمان بدلا من ضعف اليقين

إن طفلاً تربى على حب الله ورسوله، لن تستطيع قوى الأرض أن تنزع من قلبه عزته، ولا من روحه كرامته.

لقد نشأ الأبناء على معنى “الله أكبر” فإذا بهم يشهدون للعالم أن الإيمان أقوى من كل دبابة، وأعظم من كل طائرة.

في محنة غزة، نشأ جيل الثبات والصمود، وأينع جيل الكرامة والعزة، وبزغ جيل القوة واليقين: إنه جيل التحرير. وإنا غدا لناظريه لقريب.

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى