الترند في وسائل التواصل الاجتماعي من التسلية إلى الإمعية – كلثوم بندية

أثر الظاهرة الرقمية على الهوية الفردية والقيم

في عصر يتسم بتسارع التحولات الرقمية، برزت ظاهرة “الترند” بوصفها ظاهرة اجتماعية رقمية عابرة للمسافات والثقافات، وإحدى أبرز أدوات تشكيل الرأي العام وإعادة إنتاج أنماط من التفكير والسلوك الجمعي، وبعد ان كانت بدايات الترند مرتبطة بالمحتوى الترفيهي، فإن توسعه السريع جعله يتجاوز هذه الحدود، ليصبح أداة للتوجيه الجمعي والاستلاب الثقافي والذوبان القيمي.

استجلاء لأبعاد الظاهرة يجدر بالمتتبع التوقف عند معناه ومضمونه للوقوف على تأثيره على الخصوصية الثقافية لأي مجتمع.

“الترند”  Trend من مجال التسويق إلى أداة للهيمنة الثقافية ومن الترفيه إلى الإمعية

في أصل معناه، يُشير مصطلح الترند إلى الاتجاه السائد أو الرائج وارتبط المصطلح بالتسويق ارتباطا وثيقا باعتباره أداة يتم استخدامها لتحقيق الأهداف التسويقية وتطوير استرتيجيات التسويق… غير أن استثماره في المنصات الرقمية، جعله يتحول إلى أداة ضغط ناعمة، تُمارس توجيهًا غير مباشر على الأفراد، وتُنتج سلوكات مكررة وسطحية، يمكن إدراجها ضمن ما  بيّن عبد الوهاب المسيري في حديثه عن “الإنسان الاستهلاكي” الذي يخضع لما يُملى عليه من الخارج دون فحص، مما يفقد الامم والشعوب القدرة على إنتاج معناها الخاص بتعبير مالك بن نبي حيث تصبح تصبح عُرضةً لما سمّاه بـ”القابلية للاستعمار”، وهو ما ينطبق على الحالة التي يخلقها الترند حين يُفرغ الفرد من مرجعيته ويغرس فيه استهلاكًا ثقافيًا قسريًا لا يعرف حدودا، ويجعله يدخل دائرة إنتاج نسخ محاكية لنفس السلوك ولنفس الذوق ولنفس الاختيارات، فاقدة للبوصلة الذاتية،  وفاقدة للمناعة الثقافية، بل تكتفي بالانخراط الأعمى باتباع الجمهوربدافع الرغبة في القبول والخوف من العزلة الرقمية أو بحثا عن المشاهدات…حينها يتم الحصول على الإنسان “الإمعة” الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم .

تزييف الوعي وبناء ذوق استهلاكي نمطي

يقدم “التراند” كل ما هو رائج باعتباره معيارا للنجاح حتى لو كان سطحيا وتافها أو فارغا من القيمة، مما يحول الذوق من تعبير عن الذات الحضارية إلى محاكاة وتقليد آلي للمحتوى الأوسع انتشارا، فيعمد المنخرط إلى استيراد مظاهر التقدم دون جوهره، وأشكال الترفيه دون إدراك مآلاتها، ويعيد إنتاج ما هو منتج أصلا فيحل التقليد وتزييف الوعي بدل الإبداع والتجديد والابتكار، وفي الوقت الذي تتعدد فيه الأذواق تبعا لتعدد الثقافات والاختيارات يجعل الترند الفرد ينجذب إلى نفس المنتج، ونفس الأسلوب، حيث يتم فقد التنوع والتعدد .

أثر الترند في الهوية الفردية والجمعية

تحت ضغط “الترند” تتشكل هوية هجينة قائمة على تقليد الجماعة الرقمية أو على الاقل ضمانا للحضور اليومي فتتآكل الخصوصية عبر آليات خفية لكنها فعالة، تقوم الترندات الرقمية على تطبيع الإفصاح المفرط عن الحياة الشخصية، وتقديمه على أنه تعبير عن الشفافية والانفتاح، فيجد الأفراد أنفسهم مدفوعين للكشف عن تفاصيل كانت تعتبرفي السابق  ضمن حدودهم الخاصة: من يومياتهم الأسرية، إلى آرائهم العاطفية، إلى مشاهد طعامهم ولباسهم وحتى غرف نومهم.

وتغدو الهوية الشخصية معروضة للبيع الرمزي عبر مشاركة صور وفيديوهات معدة لجذب الإعجابات والتفاعل، مما يؤدي إلى تحول “الشخصي” إلى “مشروع تسويقي”، يبحث عن  القبول الجماعي أكثر مما يطلب الوفاء لقيم داخلية.

تُشير الباحثة الأميركية Jean Twenge في كتابها iGen  إلى أن جيل الإنترنت بات يربط تقديره لذاته بعدد المتابعين والتفاعلات، ما يؤدي إلى ضغوط مستمرة لمواكبة الترندات، حتى لو تعارضت مع المعتقد أو الذوق أو الخصوصية.

وقد أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الحالة حين حذر من “فقدان الخصوصية”، مؤكذا على أن الحداثة المادية تطمس الحواجز بين العام والخاص، وتُحول الفرد إلى كائن يلهث وراء تمثيلات سطحية للذات، ويتمظهر هذا التآكل من خلال:

  • مشاركة تفاصيل الطفولة والأمومة والأبوة دون وعي بالتأثيرات النفسية أو الأخلاقية لهذه المكاشفة المستمرة.
  • تصدر تحديات ترندية محرجة أو حساسة مثل الإفصاح عن “مواقف محرجة”، أو “مقالب” مما يضعف تدريجيا الإحساس بالحرج والحدود.
  • تقليد محتوى مشاهير يخترقون الخصوصيات (كمن يفتح كاميرته داخل بيته في كل اللحظات) أو في مناسبات سعيدة أو حزينة، وكذلك في بيوت الأقارب والاصدقاء مما يغرس نموذجًا من التهافت على الانكشاف.
  • افتعال خصومات أو مواقف للحصول على أكبر عدد من المشاهدات ، يتم تنظيم ذلك بشكل مسبق … مما يخلق تطبيعا مع هذه المكاشفة لتتشكل ذات يستوي لديها اتصافها بالخبيث كما بالطيب من الفعل والقول والحال… وتتشكل بسببه أيضا “ذات رقمية زائفة” تفرضها الترندات حسب معاييرلا تتناسب مع الحقيقة الداخلية للفرد فيضطر للعيش بين صورتين: صورة واقعية وصورة افتراضية.

هيمنة الترند على القيم و على الثقافات المختلفة

الترندات العالمية تنبع في الغالب من مراكز ثقافية خارجية (الولايات المتحدة، كوريا الجنوبية، أوروبا)، وتُصدّر محتويات ترفيهية أو رمزية (رقصات، أغاني، تحديات، موضات) تخضع لذوقها ويتم استهلاكها دون تحفظ ، ونسوق تحديات التيك توك مثالا على ذلك، والتي هي غالبا ما تخالف القيم الإسلامية ويتم تبنيها ومحاكاتها بدافع” المواكبة”، وفي حال رفضها تواجه الرافض لها نعوت: غير منفتح- غير Cool- والتنمر من أجل إجباره على السكوت أو التماهي والاندماج، مما يخلق عنفًا ناعمًا ضد الهويات الأصيلة، مثل ذلك ما يحدث عندما تُهاجم المجتمعات الإسلامية بسبب مواقفها من مواضيع مثل حرية التعبير أو اللباس أو الأسرة، لمجرد أنها لا تواكب ما يُعتبر “ترندًا عالميًا”.

الترند ليس ظاهرة حيادية، بل كثيرًا ما يحمل شحنة ثقافية موجهة، تسعى إلى فرض قيم بعينها على الجميع، وتهميش المخالف تنتج تغريبا قيميا، بحسب مالك بن نبي، فإن أخطر أشكال الغزو هو ما يأتي في ثوب الجمال والنجاح، فالكثير من الترندات تنقل رموزًا وقيمًا من خارج السياق الإسلامي، مما يُحدث تصادمًا مع الموروث ويُضعف الثقة بالهوية الدينية والثقافية.

نلخصها في ما يلي:

  • التغريب الرمزي: يتم تسويق النموذج الغربي الواحد معيارا للعصرنة.
  • التمرد على الخصوصيات: تُقدَّم القيم التقليدية والدينية على أنها عائق أمام الحداثة. والانفتاح.
  • إقصاء الإنتاج الجاد: تحت سطوة الترند، يغيب الفكر العميق لصالح ما هو سريع الانتشار.

نحو تربية رقمية ممانعة ومقاومة

الترند أداة تشكيل لا يمكن التعامل معها ببراءة وحياد، وإن كانت تسليّة في ظاهرها، فهي في كثير من الأحيان أداة اختراق ناعم تستبدل الوعي بالاستجابة اللحظية، ومقاومتها لا تكون بالانعزال، بل ببناء بدائل نابعة من الذات، ومُرتكزة على مرجعية فكرية وروحية متينة،علينا استثمارها في بناء وعي جديد، يُعيد للهوية الإسلامية توازنها، ويُخرج الإنسان من دائرة الإمعية إلى فضاء الفعل والتأثير.

  • تفعيل التربية النقدية الرقمية وتحفيز سؤال: من أنتج هذا؟ ولماذا؟..
  • إحياء روح الخصوصية القيمية والثقافية وترسيخ مفهوم ” الحياء الرقمي” في مقابل ” الإفصاح والانكشاف .
  • تمتين الانتماء المرجعي عبر مؤسسات التعليم والإعلام.
  • إنتاج بدائل ثقافية ورقمية جاذبة ومؤثرة، تتجدرمن الهوية ومنفتحة على العالم بوعي. وصناعة محتويات منافسة محملة بالقيم غبر لغة العصر”ترندات هادفة”.
  • دعم صناع المحتويات الهادفة وتقاسم إنتاجاتهم
  • تأصيل مفهوم “التمييز” بين ما يُستهلك وما يُنتج…

غير أنه تجدر الإشارة في نهاية المقال بان “الترند” ليس شرا كله، إنما هو مجرد أداة يمكن توجيهها وتوظيفها لصالح ما هو هادف ومفيد، شرط أن يكون له من الجاذبية والفائدة ما يجعله مزاحما للتفاهة ومتفوقا عليها، محققا لقوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) سورة الرعد، الآية:17

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى