البراهمي يكتب: قصة الإسراء في سورة بني إسرائيل
“سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير”.
في شهر رجب وفي مثل هذه الأيام… وقعت المعجزة التاريخية العظيمة وكانت رحلة الآيات، رحلة البينات. إنَّها انتقال لم يُعهد له مثيل، إسراءٌ بليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمَّ عروج إلى الملأ الأعلى، وملكوت السماء، ومشاهداتٌ لآيات ربِّه الكبرى، وعودةٌ إلى فراشه صلى الله عليه وسلم قبل طلوع فجره. إنَّها آيةٌ كبرى ومعجزةٌ عظمى، تضمنت آياتٍ عظام.
والمقصود بالإسراء، تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى المبارك، ويقصد بالعروج ما تبع هذه الرحلة من ارتفاع في طباق السموات العلى، وحتى سدرة المنتهى. على أن الإسراء والمعراج لم يكن مجرد حدث أو رحلة ترويحية وإنما كانت رحلة تشريفية وتكليفية في آن واحد. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القصة في الآية الأولى من سورة الإسراء والتي تسمى أيضا سورة بني إسرائيل.
من المحنة إلى المنحة
وبداية القصة تبدأ بالمحن وبالابتلاءات محاربة قريش له، وموت عمه أبي طالب الذي كان حامياً له، وموت زوجته خديجة في عام سماه صلى الله عليه وسلم بعام الحزن، ودعوته قومه وبخاصة أهل الطائف فلا يجد من القوم إلا كل إيذاء حتى رموه بالحجارة حتى سالت دماؤه الشريفة… وطلب من أهل الطائف أن يكتموا خبر خروجه إليهم عن أهل مكة، إلى أنهم لم يوفوا بعهدهم، فما كان من قريش إلا أن منعت الرسول عليه الصلاة والسلام من دخول مكة. ودخلها بعد ذلك في حماية أحد كفار قريش على أن يلزم بيته ولا يتعرض لآلهتهم بسوء، وفوق هذا منعوه من الجهر بالقرآن.
وجاء الفرج من السماء يأمره مولاه بالإسراء إلى المسجد الإقصى والعروج إلى سدرة المنتهى. وكأن الله عز وجل يقول له على تعبير الشعراوي رحمه اله إذا ضاقت بك الأرض فمرحبا بك في ملكوت السماء. وتأتي مباشرة رحلة الإسراء والمعراج. وفي سورة الإسراء إشارة إلى هذا المعنى (سبحان الذي أسرى) إذ من معاني فعل الإسراء (سري) التسرية أي إدخال السرور.
معجزة الإسراء
ومن معاني الإسراء: السري هو السير بالليل. ولقد أكد الله هذا المعنى بقوله (ليلا). وتبين الآية مبتدأ الرحلة (الإسراء) ونهايتها (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، والمسجد الاقصى: بيت المقدس. والقصي: البعيد، وسمي أقصى: لكونه أبعد مسجد عن مكة حيث المسجد الحرام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المخاطبين.
وتعتبر حادثة الإسراء والمعراج من الحوادث المعجزة التي أعطيت للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اختلف المؤرخون في الزمن الذي وقعت فيه…كما اختلفوا في مكان الانطلاق.
إلا أن الثابت أن الإسراء كان بمكة قبل الهجرة وذلك لقوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام…)، كما يدل عليه أيضاً الروايات من إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشاً بذلك صبيحة ليلته وإنكارهم ذلك عليه.
كما اختلفوا في السنة التي أسري به (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، فقيل في السنة الثانية قبل الهجرة، وقيل في الثالثة، وقيل غير ذلك. واختلفوا في أي يوم من رجب، والمشهور أنها كانت في السابع والعشرين منه.
آية اشتملت على آيات
ومن تأمل أوائل سورة الإسراء عرف أن الله سبحانه هو الذي أسرى بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس الرسول من فعل ذلك، فقد استفتح سبحانه هذه الآية الكريمة بالتسبيح فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده)، والتسبيح هو التنزيه فكأنه يشير إلى ما قد يخطر في الأذهان من أن النبي ذهب بنفسه، فسيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أسري وعرج به ليريه الله سبحانه ملكوت السموات والارض والجنة. حتى يقطع على الخيال توهم أن الرسول إله كما حدث للنصارى.
بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية، التي هي تمام التذلل والخضوع للرب عز وجل، فقال تعالى في مقام الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى). كما قال تعالى في مقام الدعوة: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً)، الجن:.91 وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، الكهف:.1 و قال: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)، الفرقان:.1
فاستهل الحديثَ عنه بسبحانه، فسبح الله تعالى نفسه إشعاراً لكماله، وإبعاداً لتوهمِ استبعاده وبطلانه، وأضاف عبده إليه تعظيماً لشأنه. وجعل منطلق الرحلة البيت الحرام، ومقصدها المسجد الأقصى، ومنتهاها سدرة المنتهى، أشرف بقاع الأرض ومنتهى منازل السماء. فهي بحقٍّ كبرى المعجزات، ومشاهدها أكبر المشاهدات، فهي في نفسها آية، وقد اشتملت على آيات، (لنريه من آياتنا). فكانت رحلة محاطة بعناية الله، يحفظه ويرعاه، فهو السميع لا يخفى عليه شيءٌ، وهو البصير لا يغيب عنه شيء فأُسري به صلى الله عليه وسلم تحت سمعه وبصره سبحانه، (إنَّه هو السميع البصير).
طريق الملائكة
والمَعْرَج: المَصْعَد؛ الطريق الذي تصعد فيه الملائكة
لقد حدث المعراج في نفس الليلة التي حدث فيها الإسراء. من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى، وهي معجزة كبيرة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد سخّر الله سبحانه وتعإلى لنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) البراق…فارتفع به ومعه جبرئيل ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه تعالى… وقد تحدّثت سورة النجم (الآيات: 1 18)عن هذه المعجزة الكبرى:
“والنجم إذا هوى ، ماضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القوى، ذو مرّة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذّب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى، إذ يغشى السّدرة ما يغشى،ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى”.
البينات والآيات الكبرى
وإذا كنا نحتفل بهذه المناسبة وبهذا الحدث التاريخي العظيم، فإنه لابد لنا إلا أن نتذكر ونتدبر هذه الرحلة العظيمة آياتها بيناتها وحقائقها.
إذ كان الغرض من الإسراء رؤية بعض الآيات الالهيّة الكبيرة العظيمة (لنريه من آياتنا…) و(لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، إضافة إلى ذلك فإن هذه المعجزة الكريمة تزيد من ثبات المؤمنين وإيمانهم بقدرة الله سبحانه. وبنفس الوقت زعزعت ضعاف الإيمان ومن في نفوسهم مرض فارتدّوا عن الإسلام، ولم يثبت إلا من ثبت الإيمان في نفوسهم… وبهذه الطريقة عرف من ارتدّ عن الإسلام ومن لم يثبت الإيمان في قلبه.
على أن معجزة الإسراء والمعراج وسائر المعجزات، إنما كانت دليل على عجز العقل البشري عن فهمها كاملة وعجز العلم عن تحليلها وتوضيح حقيقتها، ولو خضعت المعجزات للتجارب العلمية لنزلت عن درجتها العظيمة ولمّا أصبحت معجزات.
وإن مما يدعو إلى العبرة والحكمة أن ندرك بهذا الإسراء مفهوم العقيدة والتشريعات الإسلامية أولاً ثم ثانياً نفهم معنى الوحدة والرابطة الإسلامية الكبرى التي تربط العالم الإسلامي وجزيرة العرب بأرض فلسطين وأولى القبلتين.
فأرض فلسطين لم ترتبط بالمسجد الحرام فحسب، ولكن ارتبطت بالسماء فهي بوابة السماء، فالمسجد الأقصى هو قلب الأرض، وهو بوابة السماء وستبقى القدس أمانة في أعناقنا وفي أعناق المسلمين كافة، وعليهم أن يجمعوا ويجتمعوا من أجل تحريرها وتحرير أرض فلسطين من هذا الغاصب اللعين.