أكاديميون يقاربون علميا رهانات وتحولات قضايا الهوية والانتماء في المنظومة التربوية
دعا الدكتور خالد الصمدي رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية إلى فتح نقاش جدي حول بناء رؤية استراتيجية لمقاربة موضوع الهوية والانتماء في المنظومة التربوية اجتماعيا وإعلاميا وفكريا وتشريعيا.
واعتبر الصمدي في مداخلة له في ندوة علمية في موضوع “قضايا الهوية والانتماء في المنظومة التربوية: الرهانات والتحولات” أن بلدنا ليس معزولا عن محيطه الدولي في بلدان أخرى وهناك قوانين وقواعد وقرارات قد لا تتناسب مع ثقافتنا وديننا وحضارتنا لكنها تعني جزءا من أبنائنا في مؤسساتنا التعليمية سواء داخل او خارج الوطن.
وأشار الخبير التربوي إلى وجود تحديات أخرى خارج المنظومة التربوية نفسها على مستوى العائلة والأسرة وما يرتبط بها تؤثر منها قضايا مرتبطة بما هو جيوستراتيجي خاصة حينما نتحدث عن الوحدة الترابية والمجهودات التي يبذلها المغرب في هذا الاتجاه.
وذكر وزير التعليم العالي السابق بالهجومات التي طالت مادة التربية الإسلامية ومن يسوق ويروج على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، مجموعة من الأفكار التي تمس مباشرة ثوابت الأمة، متسائلا كيف سيتعامل مثلا من يدرسون السنة النبوية وهناك من يطالب بالاقتصار على القرآن الكريم فقط.
ونبه المتحدث إلى أن هذه القضايا وغيرها موجودة في الواقع، وتحتاج منا إلى تحصين أبناءنا وفلذات أكبادنا بالحس النقدي العلمي الأكاديمي، حتى لا ينجروا إلى الانفعالات التي لا تفيد في شيء بقدر ما تحرك ازمات وتؤدي إلى توترات، والتعامل مع الموضوع يجب أن يكون بجد وبالجدية اللازمة
وأشار الدكتور خالد الصمدي إلى أنه في تدافع الهويات – ونحن اليوم في قرية صغيرة وفضاء مفتوح على أبنائنا وبناتنا كيفما كان الحال تروج فيه أشياء عوض أن نتتبعها بالتفصيل ونرد على كل واحدة على حدة- ينبغي أن نفكر بمنطق منهجي، وذلك عبر أن ننمي لدى طلبتنا وتلامذتنا الوعي التام بقضايا الهوية والانتماء والآليات التي ينبغي أن نستخدمها للحفاظ على قضايا الهوية والانتماء لأن المجال مع الأسف أصبح مفتوحا.
واستعرض الصمدي ثلاث مقاربات يتم التعامل في هذا الموضوع؛ أوله التعامل الظرفي حيث تثار قضية في وسائل الإعلام ويتم التفاعل معها تخفت، وهذا لا يعني أنها تنتهي والتعامل الثاني وهو التعامل الإديولوجي الصرف أي خروج الموضوع من الجانب العاطفي والإعلامي إلى التدافع الفكري والعلمي والتعامل الثالث الذي نسعى ونطمح إليه وهو التعامل العلمي التربوي الأكاديمي المسؤول الذي يستبعد كل التجاذبات الإديلوجية ويتأسس على النظر القانوني وكيفية استثمار ذلك بشكل عقلاني علمي مؤسساتي.
وقسم المتدخل قضايا الهوية والانتماء في المجتمع المغربي إلى ثلاثة وهي قضايا مرتبطة بالهوية الدينية للمغرب، وقضايا مرتبطة بالهوية الثقافية متعددة الروافد وقضايا الهوية اللغوية المعروفة وهي اللغة العربية والأمازيغية مع الانفتاح على اللغات الأكثر تداولا في العالم.
ودعا الصمدي للرجوع إلى النصوص القانونية لتجاوز إشكالات الهوية والانتماء من ذلك الدستور والرسائل الملكية وضرورة تقوية الترسانة القانونية وتفعيل مقتضياتها المؤسساتية بالإضافة إلى تقوية الرقابة المؤسساتية التربوية والقانونية.
وعن آفاق الاشتغال على الموضوع، دعا إلى تفعيل أمثل ووعي كبير جدا لجمعيات آباء وأولياء التلاميذ بالمؤسسات التعليمية بالجوانب التشريعية والقانونية ودورها في امتصاص بعض الإشكاليات التي تقع، وإحياء مرصد القيم بوزارة التربية الوطنية الذي كان له دور غاية في الأهمية وأصدر مجموعة من الوثائق المهمة، وتفعيل وثيقة القيم في منظومة التربية والتكوين التي أصدرها سابقا المجلس الأعلى للتعليم
كما اقترح الصمدي توسيع نوادي التربية على القيم في المؤسسات التعليمية ومأسستها ومواكبتها ضمن ما سمي بالحياة المدرسية، وتشجيع البحث العلمي الميداني المستمر والمشتغلون في مجال التربية هم الأقدر على رصد الظواهر في الواقع وفي تفاعلاتها مع السياق بالإحصاءات الحقيقية وتتبعها
الدكتور عبد الرحيم العطري أستاذ علم الاجتماع والانتربولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط، حاول من جهته في سياق معالجته للموضوع من الرؤية الاجتماعية تفكيك قضايا الهوية والانتماء ورصد استعمالات هذه القضايا على صعيد مواقع التواصل الاجتماعي.
و تناول ثلاث سياقات للتحول في الهوية والانتماء وهي سياق الخطر والمخاطر وسياق الصراع وسياق المعرفة، وأربع مسارات للتناول الإعلامي لهذه القضية في مواقع التواصل الاجتماعي وهي مسار التضخم الهوياتي، ومسار التلبس الإديلوجي، ومسار الانهزامية الهوياتية، ومساراعتبره ضعيفا وعزيزا هو مسار الاعتدال في الخطاب والممارسة.
وتطرق العطري إلى خمس استعمالات لقضايا الهوية والانتماء وهي الاستثمار الرقمي – التوظيف الإديلوجي – الاستعمال الشهروي (الوجاهة الرقمية) – الاستعمال العفوي – الاستعمال المسؤول، مؤكدا أن الهوية والانتماء بنية لذاتها لكنها تساهم في بناء بنيات وإنتاج ظواهر متعددة.
ودعا العطري إلى اعتماد مدخل أساسي لتحقيق مصالحة مع مقوماتنا الهوياتية في منظومتنا التربوية راصدا في واقع اليوم ذلك التذبذب الحاصل، كما دعا إلى الوعي جيدا أن المنظومة التربوية هي المنظومة القادرة على تحقيق مصارحة قوية مع اساسياتنا الهوياتية
وأشار المدير التنفيذي للمركز المغربي للعلوم الاجتماعية وحوار الثقافات إلى أن التحولات التي وقعت على مستوى القيم في مواقع التواصل الاجتماعي هو تحول أفقي حدي، أشياء كانت تحيل على الحد الكامل انتقلت إلى الحد المشوه وما كان مرفوضا قبلا، واعتبر أنه من القيم المرفوضة أصبح اليوم من القيم الأساسية التي ينبغي أن يرتفع عليها الطلب الاجتماعي (نموذج زواج الأسرة من أجانب كان مرفوضا قبلا لكن ارتفع عليه الطلب الاجتماعي)، وبالتالي انتقلنا من قيم كانت مرفوضة إلى قيم أصبح يرتفع عليها الطلب الاجتماعي
وأضاف العطري، أن التحول الثاني هو تحول عمودي قيم صاعدة وقيم نازلة وتحول آخر هو بنيوي في منظومة القيم ارتباك كبير خصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي المدون المقبول والناجح، هو الذي يسب وينتقد الجميع ولا يسلم أحد من إيذائه ويحظى بأعلى المشاهدات ولكن شخص آخر ينشر قولة لمؤلف ما أو كتابا لا أحد يتفاعل معه، وبالتالي بوابة البحث العلمي هي المدخل الرئيسي لتحقيق هذا المسار امام هذه التحولات القيمية الكبرى وأمام حاجتنا للمنظومة التربوية وإلى الوجود بالقيم والأمم التي تطورت كلها تطورت من داخل البحث العلمي.
ودعا الخبير في علم الاجتماع إلى تشبيك جهود الباحثين في مختلف المعارف والالتقائية بين مختلف المشاريع الفكرية والمشاريع الفتية، والحاجة إلى اليقظة لهذا المآل وإلى الرصد، لأن ما يحدث اليوم سواء في الكتاب المدرسي أو مواقع التواصل الاجتماعي لا يجب أن يمر هكذا سليما بل ربما يجب أن يحفزنا على الاشتغال.
وذكر أن ما حدث في الحوز ومع المنتخب الوطني وما حدث في لحظات أخرى مع تاريخ المغرب يؤكد أن هذا البلد الطيب له قيم وله أساسياته فقط ينبغي أن نتصالح معا وأن نؤمن بمغربيتنا في عمقنا الحضاري من غير تضخم وانهزام هوياتي فقط في الاعتدالية الهوياتية وفي الوجود بالقيم.
وفي مداخلة ثالثة، أكد الدكتور ربيع حمو أستاذ التعليم العالي بالمدرسة العليا للتربية والتكوين بجامعة بن طفيل بالقنيطرة، أن الحاضنة الهوياتية ذات بعد مركزي في النقاش المتعلق بقضايا التربية والتعليم ومعالم قلق الهوية والانتماء في المنظومة التربوية من خلال ثلاث مستويات السياسة التعليمية والتدبير التربوي للمنظومة التعليمية والممارسات التربوية والديداكتيكة
وحذر حمو في مقاربته التربوية تنظيرا وتنزيلا من وجود إشكاليات عديدة على مستوى التدبير وأن هذه الممارسات تفقد الثقة لدى الفاعل المجتمعي ولدى الفاعل التربوي وهذا ما يشكل قلقا وعوض أن تنصب الجهود إلى خدمة المنظومة التعليمية تفوت الفرص.
واعتبر الخبير التربوي أنه من المسلم أن السياسات التربوية وإعداد المناهج تبقى حبرا على ورق إن لم تتوفر آليات تنزيلها داخل الفصول التربوية والارتقاء بتطوير الأساتذة وتدريس هذه المواد الحاملة للقيم من خلال مقاربات ديداكتيكية تفاعلية تسعى إلى إكساب الطالب مهارات النقد والحجاج لأنه الآن في فضاء مفتوح أمام هاته الآراء.
وخلص المتحدث إلى ضرورة بناء منظومة تعليمية قوية تتأسس على مشروع مجتمعي توافقي منبثق من الهوية الحضارية، فالمنظومة التعليمية في مستواها الأعلى لا ينبغي أن تكون موطن استقطاب إديلوجي أو موقعا للصراع، ومن واجبات المنظومة التربوية بناء الهوية الحضارية للنشء والتحصين الاستراتيجي لها في ظل مختلف التحديات المعاصرة
وذهب حمو إلى أن غياب الحكامة يؤدي لهدر الزمن الوطني إذ تنقض الإجراءات التدبيرية مرتكزات السياسة التعليمية المعلنة، وحث على ضرورة تحقيق الانسجام والتكامل بين مختلف مستويات المنظومة الثلاث، وضرورة استكمال المراسيم والقوانين المؤطرة للمنظومة دفعا لكل قلق وتحصينا من كل ارتباك
وشدد الدكتور ربيع حمو على ضرورة التأطير الوطني لمختلف الكتب الموازية وفق آليات واضحة واعتماد منصة خاصة تحدد تلك المرخص لها، واستحضار التحديات القيمية في مراجعة المناهج والبرامج لتجيب وتحصن المتعلم المغربي في هاته الموجة العاتية من التحديات والتركيز على تثبيت الهوية وتعزيز الانتماء.
يذكر أن المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية نظم ندوة علمية بمناسبة افتتاح أنشطة الموسم الأكاديمي 2023/2024 في موضوع “قضايا الهوية والانتماء في المنظومة التربوية: الرهانات والتحولات” يوم السبت 23 شتنبر 2023 بفندق الرباط.
موقع الإصلاح