أثر الصوم في بناء عقيدة المؤمن – محمد حقي
كل مؤمن في هذه الحياة قد يفني عمره و يستفرغ وسعه من أجل الحصول على طريق مستقيم وواضح المعالم مختصر ومضمون للوصول في مدارج السلوك إلى الله تعالى، والصوم عبادة تنقل السالك إلى الله عز وجل عبر براق سر الإخلاص وشهود القلب في محل الفعل والوعي الإنساني إلى منازل الشوق والأنس والرضوان والسعادة.
ونحن نعيش في كل سنة أجواء رمضان نكتشف أفكارا وأسرارا جديدة تنبع من وحي إحساسنا بنفحات هذا الشهر المبارك التي تعرض للمسلمين لكي تعينهم على صوم رمضان “إيمانا واحتسابا” لأن معين معاني فريضة الصوم متجدد لا ينضب أبدا، فعلى قدر إيمان المسلم واستحضار قيم الروح في هذا المقام الرباني يستقبل الهدايا الإلهية التي تفيض على فكره ووجدانه بردا وسلاما..
وفي شهر رمضان يكون المسلمون مع الله تعالى لأنهم يشعرون بالقرب منه في أيام معدودات، شعور فريد يبني في النفوس مواجيد الشوق والأنس والمراقبة الإيمانية، وينمي في القلوب ربيع الإخلاص والحب والأمان، ويزرع في شخصية المسلم روابط الاعتقاد الجازم بوجود قوة قاهرة فوقه ترصد سكناته وحركاته وترعى وجوده في مزرعة الأعمال ..
من خلال عبادة الصوم يتدرج المؤمن ويرتقي في منازل الإسلام حيث أنه يدرج من مجرد الإعلان عن الانتماء لهذا الدين وأداء بعض الفرائض الظاهرة ليصل إلى أفق الدين ومنتهاه وهو مقام الإحسان، وقد عرّفه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لجبريل “الإحسان أن أتعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” وكما هو معلوم أن الصوم عبادة سرية بين العبد وربه يستحضر فيها الصائم مراقبته لله ومراقبة الله له حيثما حل وارتحل، وهذا هو جوهر منزلة الإحسان، والسؤال الذي يطرح هنا هو ما هو الوازع الذي يدفع المؤمن الصائم إلى التزام الصوم وعدم الفطر ولو اختلى بنفسه في مكان لا يراه فيها أحد؟ وما هو الأمر الذي يخاف منه الصائم إذا حاول العبث بهذه الفريضة العظيم، ولماذا يقدس المسلمون الصيام ويجاهدون من أجل حفظه من الفساد والحبط؟
طبعا إنه الإيمان اليقيني المؤسس على قيمة التقوى، هذا الشعور الطيب الذي يخالج قلوب المؤمنين ويدعوهم إلى الحفاظ على عبادتهم ويحفزهم للعمل الصالح، ويمنعهم من انتهاك حدود الله تعالى وقدسيتها وخاصة بالإفطار في نهار الصوم، وفي هذا الزمن الروحي يعيش الصائم قمة التواصل مع الله تعالى والإحساس به في وجوده، والانقطاع عن الشواغل المادية التي تنقل المؤمن إلى دائرة الغلة، ويكون هذا التواصل باستحضار المراقبة الغيبة الإلهية عليه ولو لم تبصر عينه ذات الله تعالى، فهو يعبد الله تعالى بعين الإيمان بالغيب، ويتقرب إليه كأنه يراه وينظر إلى ظاهره وما أخفى في صدره.
فالصوم عبادة لها مقاصد ثمينه ترمي إلى تنمية أصول العقيدة الإسلامية وبناء قيمة الإخلاص والإيمان بالغيب واليقين والاحتساب في ثقافة الصائم، ونفصل ذلك في المسائل التالية:
- الصوم والإيمان بالله وثقافة الأجر واليوم الآخر:
لأن الصائم يُخلص صومه للذي فرض عليه الصوم، فهو يؤمن به ويمتثل أمره ويشعر بوجوده في حياته ولو لم يكن في عالم الشهادة، لأن يقينه في الله تعالى أمر جازم لا يقبل الشك ولا المراجعة، فصومه يدفعه إلى تمثل الإيمان اليقيني الصحيح بالله تعالى والاعتراف بوحدانيته وربوبيته وحاكميته على الوجود.
ولا يرجوا المسلم من صومه مدحا أو تعويضا ماديا، بل يحتسب أجر الصوم إلى يوم يعتقد أنه موجود لا محالة، يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم، ويجازى كل عبد على حسن أو سوء فعله قال تعالى”ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره …” حيث أن هذا الصائم الذي حرم نفسه من الشهوات المشروعة في يوم الصوم، وصبر على الجوع والعطش والسهر ، يرجوا بهذه العبادة بكل ما فيها من حرمان ومعاناة الأجر والثواب يوم القيامة والنجاة من عذاب النار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” وقال أيضا “ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا” [رواه البخاري]
فالمؤمن يعيش في رمضان من خلال فريضة الصيام قمة الاعتراف بالله تعالى واليقين في وجوده وقدرته على الخلق والتدبير، والاعتقاد بيوم الجزاء والحساب، ويجسد نموذجا للمسلم الموحد المستقيم في فكره وعمله على خط الإيمان الجازم واليقين الذي ليس بعده شك ولا ريب.
- الصوم وبناء قيمة التقوى وتعظيم أمر الله تعالى:
ولعل المقصد الأساس من فرض عبادة الصوم على المسلمين ومن كان قبلهم هو مقصد تحقيق قيمة التقوى قال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” والتقوى هي قيمة جامعة للعديد من القيم والمعاني الروحية التي تشكل لبنة مهمة في بناء العقيدة التوحيدية، وهي أيضا مفهوم واسع وشامل لحزمة من الأفكار المركزية التي تلخص أصول الإيمان وجوهر الدين الإسلامي.
وللتدقيق في مراد الله تعالى من مفهوم التقوى قال عبد العزيز مصطفى كامل: “التقوى الكاملة يدخل فيها فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات وربما يدخل فيها فعل المندوبات وترك المكروهات” وفي هذا قال الخليفة عمر بن عبد العزيز: “ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير” وقال أيضا طلق بن حبيب: “التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله” فالخوف من الله تعالى وتعظيم أمره ونهيه هو الذي يؤدي إلى أداء الواجبات واحتساب الأجر والثواب من عند الله تعالى يوم الحساب والميزان.
فالصائم الذي نراه يسعى جاهدا من أجل حفظ صيامه وحماية أجره ويخاف من فساد هذه العبادة وبطلانها، هذا المؤمن يستشعر في هذا السلوك تعظيم أمر الله تعالى في أداء فريضة الصوم المكتوبة عليه، فهو الذي خلقه وكتب عليه فرائض قصد عبادته وذكره وشكره، فوجب على المؤمن اتباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه في سبيل الحصول على رضا الله تعالى الذي قال في محكم تنزيله “ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ” [الحج/22|
محمد حقي