“الدولة الإنسانية”.. نحو نموذج مغربي لإصلاح الإنسان قبل العمران – محسن بنخلدون

عرف المغرب في الآونة الأخيرة موجةً من الاحتجاجات غير مسبوقة قادها جيل جديد يُعرف إعلامياً بـ جيل Z212، وهو الجيل الذي فتح صفحة جديدة في تاريخ التعبير الاجتماعي والسياسي بالمملكة. لم تكن هذه الاحتجاجات تقليدية في مطالبها ولا في منطلقاتها، بل جاءت لتضع الأصبع على جوهر المعضلة التنموية المغربية: الإنسان قبل العمران.
رفع هذا الجيل شعارات بسيطة في ظاهرها، عميقة في دلالتها: إصلاح التعليم، إصلاح الصحة، ومحاربة الفساد، وهي ثلاثية تختزل كل ما يعانيه المواطن المغربي من اختلال في الخدمات الأساسية، وافتقادٍ للإحساس بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. هذه المطالب لم تتجه إلى قصور السياسة أو صروح الاقتصاد، بل إلى ما هو أعمق: كرامة الإنسان وجودة حياته.
مغرب بسرعتين… بين عمران يتقدم وإنسان يتألم
لقد حقق المغرب خلال العقدين الأخيرين إنجازات عمرانية كبرى لا يمكن إنكارها.
من القطار فائق السرعة “البراق”، إلى الطرق السيارة الممتدة على آلاف الكيلومترات، والموانئ الضخمة التي تنافس كبريات الموانئ العالمية، والملاعب الرياضية الحديثة التي استحقت إشادة المنظمات الدولية.
غير أن هذا التقدم المادي، وإن كان مبهراً في شكله، لم ينعكس بالقدر نفسه على حياة الإنسان المغربي. فبينما تسير البنية التحتية بسرعة الضوء، يظل التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية يسيرون بخطى متعثرة وبإيقاع بطيء.
وقد عبّر جلالة الملك محمد السادس عن هذا الواقع حين قال “لا مكان لمغرب يسير بسرعتين”:
سرعة قوية في مشاريع البنية التحتية، وسرعة بطيئة في ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية.
وهذا التفاوت يكشف أن معادلة التنمية في المغرب تحتاج إلى مراجعة فلسفية قبل أن تكون تقنية، لأن الإنسان ليس مجرد مستفيد من التنمية، بل هو صانعها ومحرّكها وغايتها.
بناء الإنسان قبل بناء العمران… من مالك بن نبي إلى المهدي المنجرة
هذا الوعي العميق بضرورة إعادة الاعتبار للإنسان ليس جديداً في الفكر العربي والإسلامي.
فقد عبّر عنه المفكر مالك بن نبي بعبارته: “بناء الإنسان قبل بناء العمران.”
يرى بن نبي أن الحضارة لا تُقاس بما تُشيّد من مبانٍ ولا بما تُنجز من منشآت، بل بما تُكوّن من إنسان راشد، متخلق، منتج، ومسؤول. فالعمران بلا إنسان صالح هو قشرة جميلة تخفي خواءً أخلاقياً وروحياً.
وقد جسّد المنجرة هذا المعنى حين قال في إحدى محاضراته: “فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء، وهذا ما يحتاجه طلابنا اليوم.”
وساق المفكر المهدي المنجرة مثالاً بليغاً من التاريخ الصيني حين بنى الصينيون سورهم العظيم لحماية أنفسهم، لكنهم تعرضوا للغزو ثلاث مرات، ليس لأن السور ضعيف، بل لأن الحارس الذي وُكل إليه حمايته كان ضعيف النفس وقابلًا للرشوة.
إنها مفارقة الحضارة: حين نُشيّد الأسوار العالية ونُهمل بناء الحارس، فإننا نُهزم من الداخل قبل أن نُهاجم من الخارج.
الإنسان… محور الوجود وغاية العمران
الإنسان هو المستهدف في هذه الحياة، وهو الذي أُنيط به عمارة الأرض كما ورد في قوله تعالى:
“هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.” أي جعل من مسؤولياتكم إعمارها وإصلاحها.
فإذا صلح الإنسان صلح العمران، وإذا فسد فسدت الحياة كلها. ومن هنا جاءت الحضارات الكبرى حين استثمرت في التربية والتعليم والضمير الجمعي قبل أن تستثمر في الإسمنت والحديد.
المنجرة استشهد بقول لأحد المستشرقين الذين لخصوا سر انهيار الأمم في عبارة مذهلة:
“إذا أردت أن تهدم حضارة أمة، فاهدم الأسرة، واهدم التعليم، وأسقط القدوات.”
ذلك لأن الأسرة الواعية تُنتج الإنسان المتوازن، والتعليم القوي يُخرّج الإنسان المبدع، والقدوة الصالحة تُلهم الإنسان السليم. فإذا غابت هذه الركائز الثلاث، يصبح المجتمع هشاً مهما بلغ من التقدم المادي
من الدولة الاجتماعية إلى الدولة الإنسانية
لقد آن الأوان للمغرب أن يُعيد تعريف نفسه، لا فقط كـ”دولة اجتماعية” توزّع الدعم وتمنح المساعدات، بل كـ دولة إنسانية تُعيد الاعتبار للإنسان في كل السياسات العمومية.
الدولة الإنسانية ليست شعاراً رومانسياً، بل مشروعاً حضارياً متكاملاً يقوم على:
- الأمن الروحي: عبر ترسيخ القيم الدينية والوطنية، وتحصين الهوية المغربية من التفكك والتبعية العمياء للغرب.
- الأمن الصحي: من خلال جعل الحق في العلاج ركيزةً مقدسة لا امتيازاً طبقياً، وضمان منظومة صحية عادلة وشاملة.
- الأمن المعرفي: بتمكين الأجيال من تعليم عصري منفتح على المستقبل، ومربوط بسوق الشغل، ومؤسس على التفكير النقدي والإبداع لا الحفظ والتلقين.
- الأمن الحقوقي:
ويعني إحقاق الحق والعدالة الاجتماعية، حيث يشعر المواطن أن حقوقه مصونة لا تُهدم، وأن العدالة نزيهة، مستقلة، وقوية، تضرب بيدٍ من حديد على المفسدين وتؤسس لثقافة المسؤولية والمساءلة.
هذا الأمن الحقوقي هو صمام الأمان لبقية الأبعاد، لأنه يضمن ثقة المواطن في مؤسساته ويعيد للعدالة هيبتها كميزانٍ للحق، لا كأداةٍ للنفوذ.
إن هذه الأبعاد الأربعة تشكل الأساس البنيوي للدولة الإنسانية التي ينشدها المجتمع المغربي اليوم، وهي التي يمكن أن تنقل المغرب من مرحلة “التشييد البنيوي” إلى مرحلة “النهوض الحضاري”.
نحو رؤية جديدة للسياسة والإصلاح
الانتخابات المقبلة ليست مجرد محطة تنافس حزبي، بل يمكن أن تكون فرصة لتصحيح المسار نحو دولة تضع الإنسان في قلب مشروعها.
إن الأحزاب السياسية مطالبة اليوم بأكثر من وعود انتخابية:
مطالبة بـ برامج حقيقية لبناء الإنسان — برامج تنمي القيم، وتستثمر في الشباب، وتعيد الثقة في المدرسة، وتكرم المعلم، وتعيد للأسرة المغربية مكانتها، وتمنح للأمل معنى في حياة الناس.
فالمغاربة لم يعودوا ينتظرون خطابات جديدة، بل ينتظرون رؤية إنسانية حقيقية تجعل من الوطن بيتاً للجميع، لا ورشةً للبناء فقط.
خاتمة: الدولة التي تبني الإنسان لا تخاف المستقبل
لقد آن الأوان لأن ننتقل من منطق التجميل العمراني إلى منطق التنمية الإنسانية، لأن الأمم لا تُقاس بأبراجها العالية ولا بطرقها السريعة، بل بإنسانها القوي في قيمه، المبدع في فكره، الوفي لأرضه وهويته.
الدولة الإنسانية ليست نقيض الدولة الحديثة، بل هي تاجها الأخلاقي والروحي.
هي الدولة التي تضع الإنسان في قلب السياسة، والكرامة في قلب الاقتصاد، والقيم في قلب التنمية.
فإذا نجح المغرب في بناء الإنسان، فلن يخشى على عمرانه أبداً، لأن العمران الذي يحرسه إنسان راشدٌ هو عمرانٌ خالد، أما العمران الذي يحرسه إنسان مكسورٌ فهو عمران مقهور مهما ارتفع.