ترى أين وزير الأوقاف من أصل “مراعاة الخلاف” عند السادة المالكية؟! – عبد الكبير حميدي

في شاردة جديدة من شوارده هداه الله، صرح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، بأن “كل من ينتقد خطة تسديد التبليغ، أو يعارض توحيد خطب الجمعة يعتبر”مجرما”، موضحا أن هذا النقد يعد في حقيقته تطاولا على المجلس العلمي الأعلى الذي يمثل “إمامة الأمة” وله وحده صلاحية الإشراف على الشأن الديني.
وأكد الوزير أن الخطبة الموحدة وخطة تسديد التبليغ، تأتيان في إطار الحفاظ على وحدة الخطاب الديني، وضمان توجيهه نحو خدمة الصالح العام، ومواجهة الانحرافات الفكرية والسلوكية في المجتمع. كما شدد على أن الوزارة لن تتراجع عن هذه الخطط، لأنها تمثل جزءا من الإصلاح الديني والمؤسساتي الهادف إلى ترسيخ قيم الاعتدال والوسطية وصون حرمة المساجد من الفوضى أو الاستغلال السياسي.
غير أن وصف منتقدي خطة تسديد التبليغ والخطبة الموحدة بـ “المجرمين” يثير استغرابا واستنكارا واسعا، لأن النقاش في القضايا الدينية الفرعية، والشؤون التدبيرية الإدارية، حق مشروع في مجتمع مسلم يتبنى الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي والتعبير المنضبطة بضوابط الشرع وأخلاق الإسلام. فخطة تسديد التبليغ ليست وحياً منزلا، كما قال الوزير نفسه، بل هي اجتهاد بشري قابل للنقاش والمراجعة، خصوصا إذا تعلق الأمر بتنظيم شؤون الدعوة والخطابة التي تمس حياة الناس اليومية.
إن الدفاع عن وحدة الخطاب الديني لا يعني مصادرة الآراء المخالفة أو تجريم النقاش حولها، بل يستدعي فتح حوار علمي ومؤسساتي يوازن بين الحفاظ على الثوابت الدينية، وضمان حرية التفكير والاجتهاد. فالاختلاف في الرأي لا يعد خروجا عن الطاعة أو تهديدا للوحدة، بل يمكن أن يكون مصدر إثراء وإصلاح إذا أدير بعقلانية واحترام.
إن المجلس العلمي الأعلى مؤسسة دينية دستورية وطنية، لها مكانتها المعتبرة ودورها المقدر، في توجيه الشأن الديني بالمغرب، لكنه ليس معصوما من الخطأ، لأنه يتكون من علماء بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون. فالمعصومية في الإسلام خاصة بالأنبياء فقط، أما المؤسسات والاجتهادات البشرية فتبقى قابلة للنقاش والمراجعة.
ومن هنا، فإن انتقاد خطة تسديد التبليغ أو الخطبة الموحدة لا يعني التطاول على “إمامة الأمة” كما قال الوزير، بل يدخل في إطار النقاش المشروع حول السياسات الدينية وسبل تطويرها بما يخدم مقاصد الدين ومصلحة المجتمع. إن احترام العلماء لا يعني إلغاء العقول، ولا يبرر وصف المنتقدين بالمجرمين، بل الواجب هو فتح باب الحوار الهادئ الذي يجمع بين العلماء والدعاة والمجتمع، حتى تظل المؤسسة الدينية في تفاعل حيّ مع الناس لا في موقع وصاية عليهم.
ثم إن أدب الحوار في الإسلام يقوم على الاحترام، واللين، وحسن الظن، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ]النحل: 125[. وعليه، فإن وصف المنتقدين أو المخالفين في الرأي بـ “المجرمين” لا ينسجم مع روح هذا الأدب الرفيع الذي دعا إليه الإسلام.
فالاختلاف في الاجتهادات أمر طبيعي بين المسلمين، بل هو دليل على حيوية الفكر الديني وقدرته على التجدد. وقد كان السلف الصالح يختلفون في مسائل أعظم من ذلك دون أن يتهم بعضهم بعضا أو يطعنوا في النيات. لذلك، فمن الواجب على العلماء والمسؤولين في الشأن الديني أن يكونوا قدوة في الحوار الراقي، وأن يتعاملوا مع النقد باعتباره فرصة للمراجعة والتقويم لا سببا للتجريم. فالإقناع لا يتحقق بالاتهام، وإنما بالبيان، والحجة، والرفق، وهي قيم أصيلة في منهج الإسلام.
وأخيرا، فإن قاعدة “مراعاة الخلاف” من القواعد الكبرى في الفقه المالكي، وهي من أجمل ما يعبر عن روح التسامح والانفتاح في الاجتهاد الإسلامي. ومضمونها أن الفقيه أو الحاكم أو المفتي يراعي وجود أقوال واجتهادات مختلفة معتبرة في المسألة، فلا ينكر على المخالف ما دام قوله مبنيا على اجتهاد معتبر أو دليل محتمل. وقد عمل العلماء المغاربة بهذه القاعدة قرونا، حتى أضحت سمة من سمات الفقه والتدين المغربي المعتدل، الذي يجمع بين الانضباط للمذهب والانفتاح على التنوع المشروع.
ومن هذا المنطلق، فإن وصف منتقدي الخطبة الموحدة أو خطة تسديد التبليغ ب “المجرمين” يتنافى مع روح قاعدة مراعاة الخلاف التي توجب احترام الاجتهادات الأخرى ما دامت في دائرة الشرع والعقل. فالاختلاف في الوسائل التنظيمية أو في فهم وظيفة الخطبة لا يخرج عن دائرة الاجتهاد، بل هو اختلاف معتبر يمكن أن يدار بالحوار لا بالتجريم. والتمسك بمراعاة الخلاف هو صون لوحدة الأمة، لا تهديد لها، لأنه يحفظ التنوع داخل إطار المشترك الديني. وهكذا، فالموقف المالكي الأصيل يدعو إلى تدبير الخلاف لا قمعه، واحترام الاجتهاد لا تجريمه، وهو ما ينبغي أن يكون الأساس في كل نقاش ديني أو مؤسساتي.
وخير ما نختم به الكلام ونجعله مسك الختام، بعد الصلاة والسلام على خير الأنام، أن نذكر السيد الوزير بأن منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ليس مجرد موقع تنفيذي إداري يعنى بتدبير الموارد البشرية والمالية وتنظيم الهياكل، بل هو منصب دعوي وتربوي في المقام الأول، يقوم على خدمة الدين وتزكية الأنفس وتربية المجتمع على القيم الإسلامية السمحة.
فالمسؤول عن الشأن الديني مطالب قبل غيره بالتحلي بالحكمة والرفق، لأن الكلمة الصادرة منه لا تعتبر قرارا إداريا فقط، بل توجيها روحيا وأخلاقيا للمجتمع. وغير خاف أن الموقع الدعوي يقتضي الإقناع لا الإكراه، والتربية لا التعنيف، لأن الهدف الأسمى ليس السيطرة على الخطاب، بل تهذيب القلوب وترشيد العقول، وهي مقاصد لا تتحقق إلا بلين الكلمة وصفاء النية وصدق الخدمة.




