يتيم يكتب: ومضات من جمالية الإسلام

الإسلام دين الله أنزله على خاتم أنبيائه ورسله، ارتضاه الله لنا دينا، وهو الجميل الذي يحب الجمال. كان الإسلام في ذاته دوما جميلا وسيظل كذلك! وكل قبح ليس من الإسلام في شيء، ولا هو من دين الله، وإنما هو عارض طارئ عليه من المسلمين الذين لم يرتقوا لتمثل جماليته، فشابها ما شابها من لوثة الجهل والارتكاس إلى وهدة السيئ من التقاليد الجامدة المتخلفة عن جمال الإسلام.

الإسلام جميل في عقيدته وتصوره؛ هو جميل لأنه دين الفطرة، وهو جميل لأنه دين العقل، وهو جميل لأنه دين الحرية، إذ لا إكراه فيه، ولأن الحرية جميلة. ولأن أكبر أنواع القبح الإكراه؛ فإن أجمل أنواع الإيمان ما كان انقيادا واقتناعا صادقا بجمالية الإسلام.

لا حاجة للإسلام بعبيد لسيف القهر، ورهبة سلطة القوة، وإنما هو في حاجة لعبيد آمنوا بالله استسلاما ومحبة! فالإذعان بالمحبة قمة الجمال، والإذعان للسيف أو جبروت القهر قمة النفاق، ومن ثمة فهو قمة القبح.

قاد الإسلام المؤمنين به بسلطان الإقناع وتفاعل الوجدان، فاستدل على الحق الذي جاء به بأدلة الجلال وبأدلة الجمال، وتفرد القرآن الكريم باستخدام الدليل الجمالي، كما يظهر ذلك جليا في سورة النحل التي يمكن اعتبارها سورة الاستدلال الجمالي، الذي تعكسه جمالية النموذج النبوي والجيل الأول من المؤمنين.

قدم الإسلام نفسه من خلال نموذج حي في الجمال، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم: نموذج في جمال الخِلقة والخُلق، ونموذج في الإحساس المرهف بالجمال وتربية الذوق الجمالي، فملك على أصحابه أفئدتهم، وأسَرَتهم شخصيته الكاملة، حتى أنه يُنسب إلى الصحابي الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري هذا المعنى الذي تواتر الحديث به بين الصحابة، حيث يقول:

خُلقتَ مُبَرَّأً من كل عـــــيب ** كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ

وأفضل منك لم تَرَ قطُّ عيني ** وأجمل منك لم تَلِدِ النساءُ

وكان جمال النبي صلى الله عليه وسلم من تمام تمثُّله لجمالية الإسلام، فالإسلام يشترط في الخُلُق أن يكون جميلا كي يكون كاملا، فهو إذ أمر بالصبر أمر بالصبر الجميل، وإذ أمر بالهجر أمر بالهجر الجميل، وإذ أمر بالصفح أمر بالصفح الجميل.

لم يكن الصحابة رضي الله عنهم الذين أدركوا جمالية الإسلام وتذوّقوها يجدون مشقة أو عَنَتًا في التعريف به، بسبب أنهم فهموه حق الفهم، وذاقوا طعمه فأحسوا بثماره الجميلة، وبالنقلة النوعية التي أحدثها في حياتهم، فقدموه بذات الصورة الجميلة التي أدركوها من إيمانهم وتصديقهم برسوله صلى الله عليه وسلم.

ونكاد نحسّ بذلك الشعور الفياض بجمالية الإسلام في خطاب جعفر بن أبي طالب المشهور حين توجه بالحديث إلى النجاشي ملك الحبشة قائلا: “كنا أيها الملك نأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجِوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيا ورسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه.

فدعانا إلى الله عز وجل لنوّحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا.

وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرَّمْنا ما حرَّمَ علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ علي، فقرأ عليه صدرا من “كهيعص” (سورة مريم)؛ فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقوا! فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد”.

وهو ما نجده في جواب الجندي العربي المسلم البسيط ربعي بن عامر الذي دخل على رستم قائد الفرس؛ فسأله هذا الأخير: “ما الذي جاء بكم؟!”، فرد ربعي بن عامر: “لقد ابتعثنا اللهُ لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

هكذا تم تقديم الإسلام إلى ذلك الإنسان العربي البدوي الوثني الذي كان يعبد أوثانا من حجر يصنعها بيده، أو من تمر يصنعها بيده فيعبدها أول النهار ثم يأكلها آخره حين يجوع. جاء الإسلام دينا للحرية والانعتاق، فما لبث أن انتقل من حالة البداوة والطبيعة إلى رسول للحرية والتحرير.

هكذا أحدث الإسلام أكبر تغيير في حياة جماعية بشرية كانت تعيش حياة أقرب إلى البدائية، وتنتشر فيها ثقافة الثأر وتعيش حالة من الاقتتال القبلي الذي لا يكاد يتوقف، وترى في المرأة عارا وتعتبر أنها لا تستحق إلا الوأْد حية، وإذا كُتب لها أن تعيش فهي ليست سوى متاع يباع ويُشترى ويورث كما تورث باقي الأمتعة.

هكذا نقل الإسلام -من خلال أكبر عملية ترويض جماعي وإعادة صياغة للذهنية الجماعية خلال 23 سنة من تنزل الوحي- مجتمعا بأكمله من جماعة بشرية هامشية، مكوّنة من قبائل متناحرة وأرض تابعة لنفوذ للإمبراطورية الفارسية وأخرى للإمبراطورية الرومانية، إلى أمة لها كيان تحول فيها الإنسان إلى حامل لأعظم رسالة، وأكبر مدافع عن حقوق الإنسان في ذلك الزمان.

بل وأصبح هذا الإنسان صانع لمرجعيتها التي تحولت إلى مرجعية كونية، فكان انتشار الإسلام فتحا للعقول والقلوب، قبل أن يكون غزوا وسيفا، حيث لم يكد القرن الأول ينقضي حتى انتشر الإسلام شرقا إلى حدود الصين وغربا إلى المحيط الأطلسي. ولولا أن المسلمين الفاتحين لم يكونوا من راكبي البحر لوصلوا به منذ ذلك الوقت إلى ما وراء “بحر الظلمات” (المحيط الأطلسي).

وما كان الإسلام ليستقر ويتحول إليه أهل البلاد التي فتحها المسلمون لو كان استعمارا وظلما وطغيانا واستكبارا في الأرض. ولولا أنه قد فتح عقول وقلوب شعوب الأرض آنذاك، لما تولت هذه الشعوب بنفسها رسالة تبليغه إلى من يليها من الشعوب الأخرى، فاخترق الإسلام الثقافات والحضارات والأجناس والألوان والألسنة وأعاد تشكيلها من جديد، ولم تكن علاقته بها أو علاقتها به علاقة توتر أو علاقة نفي وإقصاء.

وهو ما نشأت عنه فسيفساء بديعة وجميلة وألوان مختلفة من الثقافات والمجتمعات والعادات والحضارات المتنوعة، تحت سقف الإسلام الجامع وعقيدته الموحدة، ولذلك يكذب من يدعي أن الإسلام دين العرب وأن فتوحاته هي فتوحات عربية.

قبِل العالَمُ المعروف آنذاك الإسلامَ واحتضنه لما وجد فيه من جمالية العقيدة وجمالية الشريعة وجمالية الخُلق، وجمالية التعامل مع المخالفين، وجمالية الرحمة المهداة للعالمين، وجمالية الصدق، وجمالية النزوع للحرية، وجمالية العدل والمساواة، وجمالية الجهاد من أجل حماية حرية المعتقد، وجمالية تحرير المساواة بين البشر، وعتق رقابهم وتجفيف منابع الرّق. هكذا قبِل العالمُ الإسلامَ؛ وما زال كل من تسنى له أن يتعرف عليه عن قرب ويقف على جماليته عن كثب ينزع إليه وإلى رسالته التحررية.

————————–

* هذا المقال هو الحلقة الثانية ضمن سلسلة للكاتب بعنوان: “في جمالية الإسلام: إعادة تقديم الإسلام للعالم”.

محمد يتيم – مفكر وقيادي إسلامي مغربي

المصدر : الجزيرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى