واقع التدين في المجتمع المغربي

بداية وبداهة، فإن حقيقة الدِّين بطبيعة الحال تختلف عن مفاهيم التديُّن، وكما يقول يوسف زيدان فالدينُ أصل إلهي والتديُّنُ تنوعٌ إنساني، الدِّينُ جوهرُ الاعتقاد والتديُّنُ هو نتاج الاجتهاد. ومع أن الأديان كلها تدعو إلى القيم العليا التي نادت بها الفلسفة (الحق، الخير، الجمال)؛ فإنَّ أنماط التديُّن أخذت بناصية النّاس إلى نواحٍ متباعدة، ومصائر متناقضة، منها ما يوافق الجوهر الإلهي للدّين ويتسامى بالإنسان إلى سماوات رحيبة، ومنها ما يسلب هذا الجوهر العلوي معانيه ويسطِّح غاياته حتى تصير مظهراً شكلانيًّا، ومنها ما يجعل من الدِّينِ وسيلة إلى ما هو نقيض له.[1]

الأستاذ زكرياء خديري

وهكذا فالتديُّن هو الممارسة التي يقوم بها الناس ويفهمونها من دين الله عز وجل الذي نزَّله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدِّينُ هو رسالة الإسلام الخاتمة التي بُعث بها صلى الله عليه وسلم؛ وعلى هذا نخلص إلى أنَّ الدِّينُ هو النصوص أي هو التعاليم التي هي شرع الله، أما التديُّنُ فهي ممارسات الناس وهي أعمال الناس سواء صحت أو ابتعدت أو اقتربت من أصل هذا الدِّين.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ طبيعة موقع الإنسان (فرداً أو جماعةً)، وظروفه الاجتماعية والافتصادية والثقافية، إلى جانب علاقته بقيمه الكبرى ومقدار تفاعله مع تشريعات دينه؛ هو ما يحدّد بشكل كبير طبيعة النمط الدِّيني الذي يؤسسه لبيئته أو لواقعه.

وفي هذا يقول محمد محفوظ إنَّ أنماط التديُّن هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعيَّة. فإذا كان الدِّين متعالياً على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعاً لمقتضيات الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فإنَّ أنماط التديُّن على العكس من ذلك تماماً، إذ هي نتاج الظروف والبيئة؛ وهكذا يؤكد بأنَّه لا يمكن أن تتشكل أنماط التديُّن بعيداً عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.[2]

ومن أجل تقييم صحيح وتقويم ناجع لواقع التديُّن في المجتمع المغربي ولدى الشباب خاصّة؛ حاولت إلقاء نظرة موجزة على مختلف التقارير التي رصدت هذا الواقع، والتي أكدت لي على أن الدِّين بحق يشكل معطى أساسياً في تحديد هوية الشباب المغربي، وأنَّ هؤلاء الشباب اليوم أكثر تديناً من الجيل السابق، ويتوفر على معرفة دينيةٍ أكثر من الأجيال السابقة؛ وهذا ما أشار إليه التقرير الذي قامت به وزارة الشباب والرياضة في دراسة حول “الشباب والدِّين” شملت 3000 شاب مغربي من مختلف جهات المملكة كعينة تمثيلية.[3]

وخلصت الدراسة إلى أن ما يرتبط بالتديُّن في جواب على سؤال إلى أي حد تعتبر نفسك من الشباب المتدين تطبيقا لا قولا؟ كانت الإجابة بأن 89 بالمائة من الشباب قالوا بأنهم متدينون وينفذون العبادات، و25 بالمائة من 89 بالمائة قالوا بأنهم جد مطبقين للعبادات والتعاليم الإسلامية، و22 بالمائة منهم قالوا إنهم مطبقون، و42 بالمائة قالوا بأنهم يطبقون العبادات والتعاليم الإسلامية إلى حد ما، أما 11 بالمائة من الشباب المكملة لـ 89 بالمائة فقد اعترفوا بأنهم شباب غير متدين، ومنهم 7 بالمائة مستعدون لتنفيذ هذه التعاليم، و4 بالمائة منهم لا يصلون ولا يتقيدون بشيء.

وخلص هذا المحور المتعلق بالجانب الديني إلى ضرورة اهتمام الآباء بتلقين الأبناء الأسس والقواعد الدينية لأبنائهم، واعتبر معظم الشباب المشاركين في الدراسة أن التوعية الدينية تحتل المرتبة الثانية في اهتمامات آبائهم اتجاههم، كما اعتبروا أنه كان على المدرسة أن تكمل هذا الدور، إلاَّ أنَّها لم تنجح في هذا الأمر على الرغم من تواجد مقررات في الموضوع حسب الدراسة ذاتها.

وفي سؤال للشباب حول هل توجد أماكن للعبادة لكل الأديان بالمغرب؟ أجابت 60 بالمائة عينة البحث بنعم، في حين عبر 21 بالمائة منهم عن موافقتهم للأمر، و11 بالمائة غير موافقين، في حين قال 7 بالمائة منهم بأنه لا رأي لهم.

كما كشفت دراسة أنجزها المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة حول “الشباب والتدين في المغرب[4] (همت الشباب المتراوحة أعمارهم مابين 15 و35 سنة في 12 جهة) على بروز معطيات جديدة تخص طبيعة الحراك الخاص بطبيعة التدين لدى الشباب المغربي، أبرزها:

  • أولا: أن الدين يشكل معطى أساسيا في تحديد هوية الشباب المغربي.
  • ثانيا: ضعف التأطير الديني الرسمي الموجه لشريحة الشباب.
  • ثالثا: محدودية التأطير المدني الذي يستهدف الشباب.
  • رابعا: وجود توتر حاصل بين جانب المعتقد لدى الشباب والتمثلات، وجانب الممارسات السلوكية.
  • خامسا: هناك شبه إجماع على استنكار الظواهر الصادمة للشعور الديني.
  • سادسا: دور القرآن في المؤسسة الدينية غير الرسمية الأكثر حيازة لثقة الشباب.

وأظهرت نتائج الدراسة أن الدِّين يشكل جزءا أساسيا من الحياة الخاصة والحياة العامة لدى 79 بالمائة من الشباب المغربي، وأن الشباب المغربي يتفق بنسبة 71 بالمائة على أن الدِّين يمتلك حلولا اقتصادية لمشاكل اليوم، فيما اعتبر 57.5 بالمائة من شريحة الشباب أن الدِّين يمتلك حلولا على الواجهة السياسية.

أما بخصوص المعرفة الدينية فكشفت الدراسة أن المسجد والأسرة مازالا يشكلان القناة الأساسية للمعرفة الدينية لدى الشباب المغربي، ويأتي الإنترنيت و التلفزيون والجمعيات الدينية في مراتب تالية.

من جهة أخرى كشفت الدراسة على أن الشباب المغربي ضد كل السلوكيات الاجتماعية المخالفة لمعتقداته، مثل الشذوذ الجنسي، أو الإفطار العلني في رمضان، إذ أعلن 96 بالمائة من الشباب أنهم ضد الإفطار العلني في رمضان، و92 بالمائة غير متفقين مع ظاهرة الشذوذ الجنسي.

هذا وأبرزت الدراسة جهل الشباب المغربي بدور المجالس العلمية المحلية، إذ أن 55 بالمائة من شريحة الشباب أجابوا عن سؤال الثقة في ذات المجالس بصيغة لا أدري. فيما 16.7 بالمائة فقط من الشباب من يثقون في المجالس العلمية المحلية؛ بالمقابل وصلت ثقة الشباب المغربي في دور القرآن إلى نسبة 94.5 بالمائة.

ومن خلال هذه التقارير التي كشفت من جهة عن وعي الشباب المغربي بهويته الحقيقيّة وأنَّ مصدرها الأساسي هو الدِّين، وأنّ هذا الدِّين قادر على حلِّ مشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديَّة وكذلك السياسية، ومن جهة أخرى أبانت عن واقع التديُّن عند الشباب المغربي، الذي ينحاز إلى قيم دينه ومبادئه العليا كلما أُريد استهدافها، في حين يقع في الاضطراب أو سوء الفهم بين جانب المعتقد وتمظهراته السلوكيّة، وهذا راجع بالأساس إلى ضعف التأطير والتوجيه الديني من قبل مختلف الفاعلين.

وهنا يتبادر السؤال عن موقع الطقوس والشعائر الإسلاميَّة في واقع التديُّن والممارسات السلوكيّة للمجتمع المغربي، بعبارة أخرى هل هذه الطقوس والشعائر لها أثر إيجابي في الحياة العامة والخاصّة يحقق الحكمة من تشريعها، أم أنَّها اقتصرت على تأديتها فقط دون أيِّ أثر؟

فالصلاة على سبيل المثال من مقاصدها الكبرى أنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأنَّ الخمر من مقاصد تحريمها أنَّها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فما هو واقع المجتمع المغربي!؟

كذلك من قيم ديننا الحنيف الرحمة والحلم والصفح والصبر، وهي مبادئ مركزية في القرآن الكريم، لكن ماذا نجد في واقع المجتمع المغربي !؟

إننا للأسف الشديد نجد نسيجاً كبيراً من الإسلاميين احتلت عندهم طقوس الشعائر قدراً كبيراً في تطبيقها، بحيث إنّهم كبّروا ما صغّر الدِّين أو أنهم عظموا أشياء ليست منزلتها في التعظيم بقدر ما قالوا؛ فصار بَدل تلك القيم والمبادئ العليا التي حثَّ عليها الحقُّ سبحانه في كتابه العظيم، نجد الشحناء والبغضاء والتحاسد والتقاطع والتدابر !! فما السبب؟؟ إنّه الاختلاف في مسائل وأحكام جزئية فرعيَّة، في حين تركنا أصولاً في الأخلاق وأصولاً في التديُّن، ومن ذلك ما تحكيه أمّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن سيرة سيِّد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: “كان خلقه القرآن”.

وعليه فنحن – معشر الشباب – اليوم بأمسِّ الحاجة إلى نقل المجتمع من تطبيق تعاليم ربّنا وشعائر ديننا، من مجرّد طقوس، إلى حقائق لها أرواح، وكما يقول الشاطبي رحمه الله “المقاصد أرواح الأعمال”[5]، فالمتديّن بلا مقاصد يرجوها من سلوكه وممارساته الدينيّة متديّن بلا روح؛ إذ التديُّن كما يقول عائض القرني[6] هو قلب سليم، ولسان صادق، وفكر ناضج، ورحمة بالنّاس، وتعاليم وأخلاق، فنبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يقنع الناس بالكلام، أقنعهم بالقدوة حتى قال له ربّه “إنّك لعلى خلق عظيم” [القلم:4]، وهكذا فالرسول صلوات ربي وسلامه عليه حوَّل أعداءه بخلقه إلى أصدقاء.

ولعلَّ من الأهمية في هذا السياق القول: بأنّه لا يمكن للتدين أن يكون مطابقا لأصل الدّين، يقول راشد الغنوشي[7] في هذه المسألة: فالدنيا ليست مجالا لتحقيق الكمال، الدنيا مجال النسبيّة “واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين” [الحجر:99]، بحيث ليس هنالك تحقق كامل لقيم الدين في أي شخص بعد المعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَسْبُ النّاس قوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..” [العنكبوت:69]، حَسْبُ النّاس أن يقتربوا من النموذج النبوي الذي كان خلقه القرآن، بحيث فقط عندما نتحدث عن النبوة نتحدث عن تطابق بين الدين والتدين، ولكن كلما نزلنا، بقدر ما ننزل بقدر ما زاوية الانفراج تتسع بين الدين وبين التزام الناس به، وبين الدين وبين مدى فهم الناس له الفهم الصحيح وبين الواقع، فعلى قدر ما يقترب الناس من النموذج النبوي وهو المجسد لمعاني الدين فهما وتطبيقا، بقدر ما تضيق الهوة بين المثال وبين الواقع، وأحسب أنا دنيانا الآن دنيا المسلمين هي خليط بين تدين صحيح، ونحسب أنه الغالب، وبين أخلاط أخرى من بقايا الانحطاط والتغريب وما إلى ذلك.

وختاماً: إنّ نقد أنماط التديّن ليس نقداً للدّين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التديّن، ليس وقوفاً في مقابل الدّين. وإن حرصنا على الدّين ينبغي ألا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتجه إلى أنماط التديّن؛ لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التديّن هو الدّين نفسه؛ لأن بعض أشكال التديّن، تشكل عبئا حقيقياً على الدّين والمجال الاجتماعي للدّين.[8]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *زكرياء خديري، باحث في مركز الدراسات الشرعية والقانونية (الدكتوراه) – وحدة المذهب المالكي والتشريع المعاصر.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى