نشؤنا والذكاء اللغوي: أية مقاربة؟ – الحبيب عكي

أتذكر أياما حلوة عذبة مرحة وممتعة، كنت أتعلم فيها لغة أجنبية حية واسعة الانتشار، وكنت أساعدني بالبحث على شبكة الأنترنيت فأبهرتني الجهود الجبارة والقيمة التي يبذلها أهل هذه اللغة من أجل العناية بلغتهم والعمل على نشرها في كل العالم وما يزخر به من كل وسائل الاتصال وتقنيات التواصل، وفعلا نجحوا في جعلها اللغة المشتركة الأولى في العالم (تنطق في أكثر من 100 بلد وبأكثر من مليار ونصف نسمة) وفي شتى مناحي الحياة: الاتصالات والعلوم (95 % من المقالات العلمية بها تنشر) والتجارة والترفيه والدبلوماسية والإعلام، حتى أن مجرد ذكرك أنك تتقنها شفويا وكتابة في نهج سيرتك الذاتية يقوي ولاشك حظوظك للظفر بوظيفة أحلامك. نعم هكذا في هم مجتمعي شمولي أبدع فيه الجميع وبأساليب ديداكتيكية بسيطة وأخاذة سرعان ما تتجاوز بك مجرد تعلم اللغة إلى عشق أهلها وثقافتها والبحث عن الاندماج في حضارتها ولو عبر الخيال والوجدان وبدون مقابل.

ثراء هائل من الثقافة اللغوية الشيقة، من المستوى البسيط إلى المتوسط إلى المتمكن، منه المقروء ومنه المسموع ومنه المرئي، الصور والقصص والحكايات والمقالات والأفلام والمسلسلات، الرحلات والزيارات والمقابلات والمحادثات والاستجوابات والامتحانات، المربون المتخصصون الأكفاء وأشهر المغنون والخطباء، بل وحتى أنجح رجال الأعمال وأشهر رؤساء الدول يساهمون، ناهيك عن جيش إلكتروني من التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات وكلهم متمكنون ومتحمسون ومعتزون بلغتهم، يشاركون ويبدعون في سلسلاتهم الترفيهية ومسلسلاتهم التعليمية، لتعليم لغتهم من منطلق همومهم ومغامراتهم ومستوياتهم وعفويتهم، كل ذلك جعلني أجزم أن هؤلاء هم من يتشبثون حقا بلغتهم وينشرونها، وأن ما نصبوا إليه نحن اتجاه لغتنا الجميلة لا يعدو أن يكون مجرد أحلام عاطفية وإن كانت مشروعة وأماني طيبة، ولكنها لا تسمن ولا تغير من الواقع في شيء.

أخلص وأقول أن الذكاء اللغوي كما يقول المهتمون والدارسون هو أن يكون الطفل/التلميذ يمتلك ناصية اللغة ويفهم أسرارها ويستطيع التواصل والإبداع بها، وفي ذلك نوعية اهتمامه وقوة شخصيته وتجويد حياته، الذكاء اللغوي هو قوة التمتع والاستمتاع بذاكرة قوية ومهارة الكتابة ولباقة الحديث ومتعة القراءة وحبكة الحكاية وحسن الاستماع وعبقرية حل الألغاز والكلمات المتقاطعة ومنهجية التحليل والتركيب والإجابة والمناقشة…، الذكي لغويا هو مستمع جيد للآخر، متحدث ساحر يأسر القلوب، مرح يمتلك الحكم والاستشهادات ويجيد الطرائف والمستملحات، يتعلم اللغات الأخرى حتى المعقد منها بسهولة وحماسة، يسعف في الترجمة والتواصل، يبدع في المقالات الصحفية والإعلامية، ويقنع في المناقشات البرلمانية والمرافعات الحقوقية فيرد الحق إلى أهله بقوة الكلمة وحجتها وسلطتها التي لا تضاهيها سلطة، قاضي القضاة، محامي فقيه وخطيب، شاعر زجال وأديب ومسرحي، روائي سيناريست ومؤلف بارع، كثير القراءة وهو مرجع في معرفة الكتب القيمة والمؤلفين المبدعين في أمتع تجارب الحياة وغيرها.

من يكره مثل هذه العبقرية لا في نفسه ولا في أبنائه وأبناء وطنه، ومن يكره هذا التمكن في لغته الأصلية وغيرها من اللغات الحية بل وحتى اللهجات المحلية، ولكن دونه ودون ذلك جهد مستمر وإتقان مقنع لبناء متين تراكمي مرصوص، لبناته الأولى ربما تبدأ منذ صرخة الولادة وغيرها من صرخات الغيظ والتشكي، وغيرها من “نغنغات” الفرح والابتسامة الشفهية، خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة من (2 – 6  سنوات) والتي يعتبرها خبراء النمو أنها من أزهى مراحل تكون اللغة بمختلف ألوانها وتعابيرها وإيحاءاتها عند الطفل، وتتسم هذه المرحلة الحرجة بكثرة أسئلة الطفل وحاجته إلى الحوار والمناقشة والاحتضان العاطفي والقبول الاجتماعي،وكل ترك له لقيطا أمام التلفاز لصيقا به أو أسيرا لدى اللوحات والهواتف الذكية لألعاب فردية باردة يعتبر إهمالا له وإجراما في حقه ويشكل خطورة بالغة على رصيده اللغوي ونموه العاطفي والاجتماعي.

ولئن كان الناس في مسألة النهوض باللغة العربية ينادون بالعديد من الجهود الرسمية والقومية والقانونية والمعلوماتية…، فأنا أرى أن الجهود المدنية أكثر جدوى، وأنادي بتحمل الجمعيات التربوية والثقافية وغيرها من الأسر والمدارس لمسؤوليتها التاريخية في الموضوع، لابد من جمعيات وطنية تهتم خصيصا بالموضوع وتناضل فيه بشكل جماعي غاية النضال، وبشراكة فعالة مع الأسرة والمدرسة ومع جميع القطاعات وخاصة التي لها صلات مباشرة بالطفولة والشباب وهي كثيرة رغم قلة انفتاحها.

إن مثل هذه الجمعيات اللغوية هي التي يمكن ليس أن ترافع عن الحقوق اللغوية للمواطن وجودتها فحسب، بل وأن تقدم خدمات القرب والتحسيس والتخطيط والمنهج للأسر والمؤسسات وغيرها من المواطنين حول المسألة اللغوية عامة واللغة العربية خاصة، كيف تنمو عند الإنسان، ما مراجعها المثرية، وكيف يمكن أن تساهم التقنيات السمعية البصرية الحديثة في رفع تحدياتها؟؟ لابد من مشاريع لغوية في الجمعيات والأسر والمدارس، وتظهر فيها الخطط والبرامج والمؤشرات المسعفة لنقل المتعلم من البسيط إلى المركب، ومن المحسوس إلى المجرد، ودور كل ذلك في تنمية الذكاء اللغوي عند طفل الروض والمدرسة وتلميذ الإعدادية والثانوية وطالب المعاهد والكليات.

أي دور للأناشيد والمسرحيات ومختلف الإبداعات في ذلك؟ أي خطاب يناسب الطفولة المبكرة في البيت أو المتأخرة والمراهقة وهي التي تحب التعبير عن الذات وخطاب الخيال وتجارب المغامرة؟ أي تقييم للدرس اللغوي والإنشائي في الابتدائي والإعدادي؟ إلى أي حد تؤدي المطالعة والمحادثة ودروس الترجمة والتواصل دورها في التعليم الثانوي؟ كيف نفعل القراءة والكتابة وتعلم اللغات في كل المراحل التعليمية دون ملل وتثاقل؟ أين نحن من تحديات القراءة الغزيرة وأندية الكتابة المتواترة للخواطر والمقالات حول الحياة والأحداث وغيرها؟ حول النشر في المجلات الحائطية والأدبية والعلمية والصحف اليومية والمواقع الإلكترونية المتاحة؟ أين طلبتنا من ارتياد المكتبات والخزانات والقدرة على البحث العلمي  والاجتماعي والانخراط في الشأن المحلي ومناقشة المشاكل الأطروحات واجتياز الامتحانات والمقابلات المهنية بجدارة ؟ لا يسعفنا في كل هذا الأمر المعقد والهام غير الذكاء اللغوي الذي ينبغي أن نشجعه في أبنائنا وندعمه في مجتمعنا، ذكاء لغويا متينا قد تنضاف إليه بقية الذكاءات الأخرى أو بعضها العلمي والاجتماعي والفني والرياضي وغيرها، فتكون لصاحبه ومجتمعه منقذا من هذه الرداءة الفظيعة وهذا الهجين اللغوي الضحل الذي يجتاحنا كل يوم بلا هوادة.

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى