مولاي أحمد صبير يكتب: في المديح النبوي

لم يحظ ممدوح بما حظي به الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الله تعالى خصه بفضل لم ينله أحد غيره من العالمين، “ورفعنا لك ذكرك” (الشرح الآية 4) فكتب له القبول في الأرض، وتعلقت أفئدة المسلمين بشخصه الكريم بقدر لم يكتب لأحد سواه، فكانت له الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمنزلة العلية في قلوب أصحابه ومحبيه وأتباعه، بل إن المنصفين من أهل الملل الأخرى لم يتوانوا في الاعتراف له بالسبق، والشهادة له بالأفضلية، ولأن لائحة هؤلاء المنصفين طويلة، فإننا نسوق اسم واحد منهم فقط، هو “مايكل هارت” صاحب كتاب “المائة الخالدون”، والذي لم يجد بدَا من أن يجعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس هذه المائة، مبررا اختياره ذاك بأنه الرجل الوحيد في التاريخ كله، الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي.

وإذا كانت أشكال التعبير عن الإعجاب بهذا النبي العظيم قد تنوعت وتلونت بحسب الجنس الأدبي الغالب في كل عصر، فإنه يمكن أن نسجل أن الأقدمين نبغوا في شكلين اثنين: فن السيرة النبوية، الذي حفظ لنا جوانب من حياة هذا الرجل العظيم، فكان ما لا يحصى من المصنفات، تفاوتت حجما ومضمونا ومنهجا. أما الفن الثاني فهو الشعر، حيث تسامت مدائح الشعراء مع مرور الأزمنة والعصور، تمجد الإسلام وتخلد أفضال الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة وعلى العالمين، فتبرعم نتيجة لذلك فن قائم بذاته، شغل حيزا واسعا في ديوان الشعر العربي، لتنتهي صيغ هذا الإعجاب في العصر الحاضر إلى أشكال تعبيرية متنوعة، فأصبحنا الآن نجدها في الدراسة والمسرح والقصة والرواية والملحمة، واللائحة في هذا الباب ممتدة لا نهاية لها.

ولأن الشعر ديوان العرب، ولأن الشعراء أوتوا قدرة على فصل الخطاب، وإمكانات لا تضاهى في البيان والتبيين، فقد جاءت مدائحهم ترجمة صادقة لحبهم وتعلقهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتنافسوا في ذلك وتسابقوا، حتى صار نتاجهم غرضا قائما بذاته، عرف بــ “المديح النبوي”، والذي يؤكد عدد من مؤرخي الأدب والنقاد والدارسين أن بداياته الأولى تشكلت مع بزوغ فجر دعوة الإسلام، حيث “عرف مجموعة من الصحابة بتتبعهم لأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وجهاده ومزاياه وتغنيهم بذلك”[1]. وقد اشتهر من الصحابة الشعراء عند العامة والخاصة حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة، وظن خلق كثير أن شعراء المديح النبوي في حياته صلى الله عليه وسلم قلة قليلة، لكن الحقيقة غير ذلك، فالشعراء من الصحابة الذين مدحوه صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء كما يقول الحافظ عبد الحي الكتاني في التراتيب الإدارية “جمعهم الحافظ فتح الدين محمد بن محمد الأندلسي، المعروف بابن سيد الناس، المتوفى عام 734 هـ، في قصيدة ميمية ثم شرحها في مجلد سماه “منح المدح” أو “فتح المدح” ورتبهم على حروف المعجم، قارب بهم المائتين”[2].

و”قد أكثر أكابر الأولياء والعلماء وأفاضل الشعراء البلغاء سلفا وخلفا من مدحه صلى الله عليه وسلم على أنواع شتى لمقاصد جميلة قصدوها، وحاجات جليلة أرادوها فوردوها، وكلهم معترف بكمال العجز عن بلوغ ما يليق من المديح بكريم ذاته الشريفة وعظيم صفاته المنيفة”….وقد أورد أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب، قال المفضل الضبي: “لم يبق أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد قال الشعر وتمثل به، ثم أورد نماذج لعدد منهم”[3].

اطلع أيضا على : تاريخ الاحتفال بذكرى المولد في المغرب : بقلم الأستاذ مولاي أحمد صبير 

لقد لهج بمدحه صلى الله عليه وسلم  معاصروه وهو حي بين أظهرهم، يتملّون بطلعته الشريفة، ويملأون مقأهم بصورته البهية،  فعاش حسان منافحا عنه، يفديه بأبيه وأمه وعرضه، وكان شعر عبد الله بن رواحة أشد إيلاما على مشركي قريش من وقع السيف ونضح النبال، ولم تتعطل مسيرة مدحه صلى الله عليه وسلم، ولا توقفت كوكبة مادحيه منذ ان انطلقت، بل ظلت سيرته تلهم أرباب القوافي وتثير خيالهم في كل عصر، فلهجوا بالشمائل المحمدية جيلا بعد جيل، يشهد لهم تراثهم الزاخر مخطوطه ومطبوعه، ما حفظ منه وما لم يحفظ. قال الشيخ الحافظ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني في التراتيب الإدارية: “وأما ما مدح به عليه السلام من شعراء أمته بعد الصحابة، فشيء يجل عن الحصر”[4]. ويقول النبهاني في مجموعته: “اعلم أن مداح النبي صلى الله عليه وسلم في كل عصر ومصر كثيرون، لا يحصيهم عد ولا يحيط بهم حد، ولو جمعت مدائح أهل عصر واحد منهم لبلغت عدة مجلدات”[5].

إن شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام معجزة في كل أبعادها، جمعت من السمو البشري والكمال الإنساني وجماع الفضائل الخلقية والخلقية ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: ” وإنك لعلى خلق عظيم ” (سورة القلم، الآية 4) فقد عاش عليه الصلاة والسلام على مكارم الأخلاق، حاثا عليها داعيا إليها: “إن أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا “[6].

فكان حريا بهذه الشخصية الفذة أن تشغل عقول الناس وتبهر بصائرهم، فهو لم يكن مجرد عبقري فذ سما بعبقريته بين أقرانه من قومه، ولكنه رسول معزز بالوحي، ونبي ارتضت المشيئة الإلهية أن يكون خاتم النبيين، وأن تكون رسالته آخر كلام الله إلى خلقه، فجاءت قصائد المديح النبوي “خالصة متجردة لا يدفعها هوى، ولا يسوقها غرض، ولا تصدر عن  طمع، لأنها كانت لوجه الله خالصة.. وبحب الرسول وآل بيته من بعده لاهجة، حبا فيه وإكراما له… فما الذي يغوي شاعرا بمدحه صلى الله عليه وسلم إن لم يكن الإيمان الخالص هو دافعه… فماذا عند محمد ليعطيه”؟[7].

مولاي أحمد صبير الإدريسي

  • [1]ـ  محمد حمزة الكتاني: مقدمة عرائس الأفكار في مدائح الأخيار، ص 5
  • [2] ـ عبد الحي الكتانيالتراتيب الإدارية. 1/211    
  • [3]ـ يوسف النبهانيالمجموعة النبهانية ج 1 ص 31 ـ 48
  • [4] ـ نفسه : 1 / 212
  • [5] ـيوسف النبهانيالمجموعة النبهانية: 1 م 15 ـ 16.
  • [6] ـ الترمذي : الحديث رقم 2018
  • [7] ـ عبد العالي الحمامصي: البوصيري المادح الأعظم للرسول. ص 8

-*-*-*-*-*-*-

مواضيع ذات الصلة: 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى