مقصد الأمن الاجتماعي من خلال عيد الأضحى

إذا كان عيد الأضحى مناسبة للتقرب إلى الله تعالى، فهو في ذات الوقت لحظة يتعايش فيها الناس، وتختلط فيها أرزاقهم، ويتعاون فيها الغني مع الفقير، ويتواصل فيها المتخاصمون، فتزول الشحناء والبغضاء، وتصفو النفوس من كدر القلوب، وجفوة الخواطر… إنه عيد الأضحى؛ الذي شعاره التضحية، والبذل والعطاء… وهذه المعاني تساهم في إقامة مباني لإحتضان الأمن الاجتماعي والمجتمعي، فيغذو عيد الأضحى، كغيره من الشعائر الدينية، مُقويا للأمن الاجتماعي، وداعما للسلم الاجتماعي، ودافنا للحقد الاجتماعي، الذي يمكن أن يعكر صفو العلاقات الاجتماعية.

ويفترض الأمن الاجتماعي خلو العلاقات الإنسانية من أي خطر يهدد وجود نسقها القيمي والأخلاقي. وإذا كان الفرد يتحمل جزء من مسؤولية إخلاء هذا الفضاء الاجتماعي من بعض مهدداته ومنغصاته، فإن الدولة، باعتبارها، راعية الشأن العام، تملك من الوسائل والسلطات، ما يجعلها تسهم في تقوية هذا الأمن الاجتماعي، وتمتين بنيانه بين كل شرائح المجتمع.

ويمكن أن يكون الفقر هو أكبر مهدد للأمن الاجتماعي؛ فهو يتجسد في عدة صور أهمها: انعدام وجود ما يؤكل و يشرب لسد رمق العيش، وعدم وجود ما يحمي الإنسان به نفسه، أو عدم القدرة على التطبيب إذا هو مرض؛ ومن تم اعتبر هذا النقص في إشباع هذه الحاجات الفطرية سببا في تقويض المجتمعات وتكسير شوكتها وإعاقة نهضتها.

فالناس بمقدورهم أن يحدثوا بأنفسهم ـ عن طريق التعاون ـ  فضاء آمنا يستوعبهم جميعا، ويستجيب لحاجاتهم من سكن ومن غذاء وكساء، لكن إذا ما اختلت أدوار هذا الفضاء، ووقعت بعض الفجوات في خريطة العلاقات البشرية، من ظلم وفقر وحاجة، هنا تتدخل الدولة بإمكاناتها لإعادة التوازن بين الناس. وتدخل الدولة في جوهره، إنما هو تدخل تقني يرمي إلى تنمية النسق القيمي الأخلاقي الذي يؤطر حياة الناس، ويدعم خلق التعاون والتعاضد بين الناس، في مناسبات مخصوصة، أو غير مخصوصة.

وفي هذا السياق، يمثل عيد الأضحى مناسبة لأجرأة منظومة القيم والأخلاق الإسلامية، إلى مدونة قواعد وسلوك مدنية، تتعزز بقيم التعاون والتعاضد بين الناس من أجل تقوية الأمن الاجتماعي، ورفع منسوب الشعور بالانتماء إلى المجتمع الواحد، وتقوية النزوع إلى بناء الحياة وتفعيل تنميتها، على أساس أن الفرد هو جزء من المجموع، وأن مصير المجموع مرتبط بمدى تقوية قدرات الفرد وتأهيله جماعيا لكي يكون في مستوى خدمة المجتمع؛ ومع اختلاف الناس فيما بينهم، وتفاوتهم في مستويات معايشهم، ومكاسبهم، تتأكد الدعوة إلى تقوية عنصر التعاون والتكافل بين جميع فئات المجتمع. ومن جملة ما ورد في هذا الشأن، ما رواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وفي رواية أخرى، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

  إن هذه الدقة في تصوير تواد وتراحم المسلمين وتعاونهم فيما بينهم كمثل الجسد الواحد، أو كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، لهو خير مؤشر على قوة طرح الإسلام وتصوره للعلاقات الإنسانية القائمة على أسس كثيرة، منها الإيثار والمحبة والخدمة؛ يقول الله تعالى: {وَيُوْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[9/الحشر]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[رواه البخاري]. وقال أيضا: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»[متفق عليه]، وقال أيضا: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[رواه مسلم].

  حتى إن أبسط الحقوق التي من شأنها أن توطد العلاقات، وتجمع القلوب، وتوحد المشاعر، لم يغفلها الإسلام، ومن ذلك، يقول النبي صلى اللهم عليه وسلم:»حق المسلم على المسلم ست قيل ما هن يا رسول الله قال إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»[رواه مسلم] ، هذه هي صورة الناس فيما بينهم، أو لنقل، بلغة العصر: هذه هي صورة المجتمع المدني، كله مفعم بالتضامن والنصيحة والتعاون والبذل وعدم البغي، فلا مجال إذن للكسل والخمول بين الناس، ولا مجال للصراعات والنزاعات، ولقد دعا الإسلام الى هذا النوع من التعاون بكل صراحة ووضوح، فنادى من أول أيامـه:  {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الاِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[3/المائدة]؛ فأي بِـر هذا أُمر الناس بالتعاون عليه؟ الجواب  في قول الله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ }[176/البقرة] ، ويقول أيضا: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [91-92 / آل عمران ]

ومن تم يصبح عيد الأضحى كتابا مفتوحا، عنوانُه، البِـر والتعاون الاجتماعي، لتقوية لحمة المجتمع وتكافله؛ فالأمن الاجتماعي للمجتمع، متوقف على مدى قدرة هذا الأخير على الإهتمام بفئة المحرومين في المجتمع؛ من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وفي كل من يجد فقرا وحاجة، لكنه عاجز عن إشباعها وقضائها. ومن ذلك؛ حاجة الفقراء والمساكين والأرامل والضعفاء إلى إمضاء عيد الأضحى بالفرحة والحبور، وهي حاجة مبررة؛ تستدعي أن يستجيب لها المجتمع، وإذا ما قصر في هذه الاستجابة، فالدور يأتي على الدولة، على اعتبار أن إدخال الفرحة والسرور والنشاط على قلوب الناس هي من أمور الشأن العام، التي يتعين أن تخصص لها إمكانات وتتوفر لها إرادات. 

بقلم صالح النشاط

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى