في الايجابية وثقافة المشروع والمساهمة في الإصلاح – الحبيب عكي

كثيرا ما يقف المرء على أمر مجتمعي مقلق فيقيم الدنيا ويقعدها ولا يتغير شيء، بل ربما مرت الأيام وتغير ذات المرء وغيره ليعتادوا على الأمر المقلق ويطبعوا حياتهم معه، بل ربما ألفوا رداءته وحاربوا من حاول بعدهم التغيير فتستفحل الأمور وتزداد تعقيدا، وقد يمر المرء بالمقابل على أمر طيب مفرح فلا يبالي به ولا يعتبر نفسه معنيا بدعمه واستمراره أو بنشره وتعميمه، وقد تمر الأيام وتنال من الأمر الطيب وتضعفه ربما إلى درجة قد تجمده أو تزيله لتجد الناس بعدها يتباكون عن يوم لم ينتبهوا إليه ولم يدعموه كما يلزم حتى يحافظوا عليه.

إن التباكي عن الأمور الطيبة لا يغير من الواقع شيئا، والتطبيع مع الأمور السيئة لا يزيد الواقع إلا سوءا وفسادا، بل الذي يغير ويصلح هو فعل الإنسان وتدخله المشمول بعناية الله تعالى وتوفيقه، من هنا استعمر الإنسان في الأرض وحمل أمانة الاستخلاف، وكلف بالدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرع له دعم الخير ومحاصرة الشر والتعاون على ذلك مع الغير بدرء الممكن من المفاسد وجلب الممكن من المصالح، وتلك بصيغة أخرى أهداف المشاريع ولغتها التي ينبغي أن نتدرب عليها ونتقنها، فبقدر ما يتحقق بها من القيام بالواجبات تصبح منها.

دعك من كوننا نحتاج إلى مشروع الثقافة لا إلى ثقافة المشروع، ودعك من كون العديد من الجمعيات التي سعت وراء المشاريع والتمويلات قد حادت بها عن مشاريعها الأصلية والأساسية، التربوية والثقافية،التكوينية والإشعاعية مقابل تمويلات قد تأتي وتمضي بشيء من التجهيزات ودون أي شيء من المنتوج الفكري أو استيعاب بشري يذكر، ودعك حتى من أيهما أجدى مشروع تمويل لبناء “خصة” أو تركيب مصابيح كانت موجودة في الشارع العام فكسرها المواطن، أو مشروع لتربية هذا المواطن على احترام الملك العام حتى لا يكسر المصابيح أو يعطل دورة المياه هذه أصلا فلا نعيد تركيبها ولا بنائها.

المشروع ليس مرتبطا بالدعم المادي ضرورة، بل بالتغيير والإصلاح أولا، وبالتعاون والمشاركة أيضا، ولا تعدو أن تكون فيه المسألة المالية إلا وسيلة من الوسائل قد تكبر أو تصغر ولكن أبدا لا تتوقف عليها كل المشاريع، فإنشاء جمعية مثلا مشروع، وتدبيرها مشروع وإعداد أنشطتها وإنجازها مشروع، وشراكاتها ومشاريعها أيضا كذلك، تربية نشء وتخريج قادة، تعلم علم وإتقان لغة…، كلها مشاريع بما تعنيه من تفكير قبلي شمولي مفصل ومحيط، بدءا من الإشكال والفكرة والدواعي، إلى وضع المشروع وتحديد الهدف العام والأهداف الإجرائية، مرورا بمختلف مكونات المشروع ووسائله وجدولته الزمنية للتنزيل،وانتهاء بالميزانية والطاقة البشرية المتدخلة والداعمة والمقومة…، والأكثر من ذلك كله هو العزم الأكيد على التنزيل الميداني ومكابدة المستجدات والعقبات الواقعية، فالمعروف أن التسويف والتواكل وتقاذف المسؤولية يضيع الإصلاح، وسبب ذلك فقدان الإيجابية والمبادرة.

فأين نحن من إعداد المشاريع، من التخطيط والبرمجة والانجاز والتقويم والتوثيق والإعلام؟ أين نحن من لغة التغيير والإصلاح الحقيقي التي لا نتقنها؟ أين نحن من ثقافة التخطيط الاستراتيجي والأخذ بالأسباب، من وضع الرؤية والرسالة والمخطط المتكامل والبرامج المتماسكة والتي لا تتجاوزها الأيام في مداها القصير أو المتوسط؟ أين نحن من رصد الحركة المجتمعية لمعرفة الهيئات والمؤسسات والشخصيات والفعاليات التي تسير في اتجاهك الإصلاحي وتدعمك، أو التي تسير عكس ذلك فتحاربك أو تشوش عليك؟ أين من مشاريعنا للانفتاح والتعاون والتنسيق في الخير مع مع الغير، خاصة وأن جهود التنمية وجهادها يسع الجميع ويحتاج إليه؟ أين من مشروعنا إشاعة هذه الثقافية في الجمعيات والتعاونيات والمؤسسات والأحياء السكنية وغيرها من الهيئات الرسمية والمدنية؟ وكم سيكسب الجميع بانتشارها وتجدرها في حياة الفرد والمجتمع وفي أبسط الأمور كما في أعقدها؟ كم مرة يحتج المرء على أمر مقلق في أسرته أو حيه أو مؤسسته أو قطاعه مثلا، فإذا قلت له ما هو الحل وماذا تقترح من بدائل قال لا أدري؟ يعني أن المهم أن الأمر ليس من مسؤوليته بل من مسؤولية الغير، وهذا الغير لا يتحرك في الغالب بدون مشاركة غيره، وغيره هذا ينتظر غيره…، ولا يسعف في كل هذه الأوضاع الانتظارية غير ثقافة المشروع والتدبير التشاركي والمساطر المواطنة المتعاونة، يعني ثقافة المخطط والمشروع التي تتيح للجميع التفكير الدقيق والشامل حول الإشكالات المطروحة ورصدها وتشخيصها، كما تتيح المشاركة الجماعية حول الممكن والمفيد والأرخص والأسرع  والأجدى من الحلول.

إن إعداد المشاريع ذاتها ثقافة خاصة ولغة أكثر خصوصية،فأي إعداد يناسبك كفرد أو جماعة، كتربوي أوتنموي، في وضعك المحلي أو الجهوي أو الوطني والدولي، إعداد بالأهداف أم إعداد بالنتائج أو إعداد بالتشارك وبالفحص قصير المدى(D.C.A). هل يدرك المرء حقا ما بين الغايات والأهداف والوسائل والمؤشرات من اتصال وانفصال، وما يرتبط بكل منها من أفعال إجرائية أو سلوكية تغييرية وبنائية كمية وكيفية استراتيجية عميقة أو مرحلية تكتيكية…؟ هل يستطيع المرء أن يبني مشروعه على تشخيص حقيقي وحاجيات غير وهمية؟ وكيف يمكن أن يقوم بذلك والأمور تتغير في كل يوم وتتجاوز في كل ساعة،مما يجعل العديد من المشاريع مجرد تفكير آني  و ورقي وفي الزمن الماضي تموت قبل أن تولد أو قليلة وعديمة الجدوى حتى لو دعمت بالملايين وأطعمت بملاعق من ذهب؟ ما قدرتنا على تعبئة الشركاء والفاعلين والمستفيدين والعاملين والحفاظ على جسور التعاون مع الجميع، خاصة إذا كان المشروع ذو أرباح معنوية أكثر منها مادية؟ كيف هي قدرتنا في البحث على الممولين والداعمين المحليين والوطنيين والدوليين عند الحاجة؟ وكيف هي قدرتنا في التفاوض والدفاع عن المشروع وفرض قيمته المضافة بكل إقناع واستحقاق أمام لجنة التحكيم والاختيار حتى لو كانت منحازة؟ كم مشروعا قوبل لنا وبأية مواصفات؟ وكم دبر من مشاريعنا المقبولة بنجاح وبأي عائد تربوي ودعم جمعوي؟ كيف هو نظامنا التربوي في الأسر والمدارس والجمعيات مع البحث العلمي التنموي والسوسيو ثقافي، مع الفكر المشاريعي ونحن نسمع عن المشروع الشخصي للتلميذ ومشروع المؤسسة و فكر الإبداع والاختراع والمقاولة والإدماج والمواطنة وحقوق الإنسان؟ وكيف نحن مع التوثيق والإعلام والتسويق حتى يستفيد من تجاربنا الآخرون هم في أمس الحاجة إلى ذلك كما نستفيد نحن من تجارب غيرهم في الشرق أو الغرب ممن سبقونا إلى ذلك وتقدموا به خطى ثابتة في اتجاه تجاوز التخلف والأزمات، والرابح على كل حال هي ثقافة  التقاسم وتراكم الإنجاز التنموي على مستوى البلدان؟.

خطوات ولاشك مضنية ومعقدة وليست في استطاعة الجميع ولكن لابد منها بقدر ما نتوفر على قيم الإيجابية والمسؤولية والمبادرة، لأنه ليس دونها غير العبث والارتجال والغرق في متاهات المتاح وهي لا تجدي والطوارئ التي لا تنتهي ولا تزيد بنا نحو تحقيق الأهداف والمقاصد بل بالعكس، الأمر صعب ولكنه بالتدريب الهاوي والمحترف وبالتكوين المحلي والوطني قد تتملك قواعدها وأسرارها فيصبح الأمر عندك سهلا ولعبة مسلية وممتعة في نفس الوقت، الأمر صعب ولكنه الطريق المعبد الذي سلكته المؤسسات والدول التي غيرت أوضاعها إلى الأفضل في الشرق وفي الغرب. فهل نسلك طريق التنمية العالمية أم نكتفي بمجرد إتقان معظم لغات العالم واستهلاك صناعاته ومنتجاته بعيدا عن إعداد المشاريع وهي لغة التغيير الحقيقي ولغة التنمية البشرية الشاملة والمستدامة؟

قصم ظهري رجل يقول أنه ليس لديه هدف يحركه لأي شيء وهو سعيد في أسرته منشغل مع أبناءه مستقر في عمله الذي يشرف فيه على التقاعد…لا تنتظره ترقية ولا امتحان وليس لديه سفر ولا بيع ولا شراء ولا مقاولة، فعلى ما سيقرأ و لما سيتحرك؟ من يرغب اليوم في أية خبرة أو تجربة أو إبداع فيحركه، من يحمل هما غير مصلحته الشخصية، لكن وجدت بعض السلوى فيما يحكى من أنه كان هناك في مناطق الجنوب أيام الاستعمار وبينما كان الناس يحتجون ضد المستعمر وتدخلاته الفجة ضد الهوية الحضارية والخصوصية الوطنية، كانت ردة فعل أحد فقهاء المنطقة ومشروع مقاومته أن جمع ثلة من أبناء المنطقة يحفظهم القرآن الكريم ويعلمهم العلوم الشرعية، ولم يمض وقت طويل حتى اشتهرت مدرسته العتيقة وأقبل عليها الطلبة من المناطق المجاورة ودعمها الوطنيون الغيورون، فكان من ثمراتها الطيبة والسريعة أن تخرجت منها أفواج من الفقهاء العالمين العاملين سرعان ما انتشروا في تلك الربوع وغيرها من الربوع الوطنية، ليحافظوا أولا على تدين الناس وهويتهم والقضاء في نوازلهم بدون قوانين وضعية ولا بدع ولا خرافات، بل ويساهموا من مكانتهم في المقاومة والتحرير مساهمة لا تقل عن مساهمة غيرهم من الفدائيين والوطنيين، إنها لغة التفاؤل والأمل والإيجابية والمشاريع الكيفية والكمية، أو لغة التغيير والإصلاح الحقيقي والذي وحده ووحده فقط يقود الأشخاص والأسر والمؤسسات والجماعات والمجتمعات إلى الأفضل، والذي معه ومعه فقط نتغلب على اليأس والإحباط ويرشد القول والعمل ويكبر التفاؤل والأمل.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى