دفء الأخوة في الله – بنداود رضواني

أول دعامة قامت عليه الرسالة المحمدية بعد توحيد الله دعامة الأخوة فيه سبحانه. الأخوة المنبثقة من معين التدين، من معين الإيمان بالله سبحانه وتعالى والانضباط بأوامر عز وجل.

والمعهود في المؤمن أن يستكثر من إخوانه في الله، فهم من جملة العطايا الإلهية والمنن الربانية، قال جل وعلا ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )، آل عمران/103.

فكم من أخ لك فيه سبحانه، إذا طافت بك نائبة من الدهر، أو أغراك بريق الفتن، أو بدا فيك خلل، أو بدر منك زلل، وجدته خيراً لك من أخ الدم ناصحا ومعينا، يقول الشافعي رحمه الله: ” من صدق في أخوة أخيه، قتل علله، وسد خلله، وعفا عن زللـه “، طبقات الشافعية الكبرى 2/138.

لكن العاقل يعجب اليوم…، لم كل هذا التدابر والتخاصم الذي أضحى مشاعا بين الإخوة في الله…..؟!!!

لم الهجر والجفاء ..؟!!! بل لم هذه النفوس تحمل هذه الجبال من الضغائن والأحقاد..؟!!

إن استعادة أمجاد هذه الأمة لن تتم إلا على النحو الذي قامت عليه في أول الأمر، هذا معلوم من قوانين الحضارة وسنن التغيير بالضرورة.

لقد قامت الأمجاد الإسلامية على أساس الأخوة في الله، و من العيب أن يستدعي الدعاة في خطابهم المحطات الوضيئة في التاريخ الإسلامي والاستشهاد بها على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، في حين أنهم صاروا من جملة المفتقرين إلى مشاعر الألفة ومعاني الحب فيما بينهم!!!.

ويبدو أن اليوم الذي ضاعت فيه لذة المحبة في الله، وغاب فيه دفء الأخوة في الله، هو اليوم نفسه الذي أهملنا فيه مضمون حلق الذكر وجوهرها، والغاية من سنها ووجودها.

لقد ضاعت لذتها بالفعل، حين عطلت هذه المجالس من التجرد لله وذكر الآخرة، وأغرقت بحظوظ النفس وذكر الدنيا والأحاديث الباطلة ونهش الأعراض والتفكه بلحوم الناس.

إن الأصل في وظيفة مجالس الذكر، أنها وقاية وعلاج- في الآن نفسه – للأدواء الأخلاقية والإجتماعية والأمراض النفسية.

إنها تشد الداعية إلى أخيه، وتحبب المؤمن لأخيه المؤمن، تذكرهما بالعروة الوثقى التي جمعت بينهما، وتصد الأقاويل والتراهات والشائعات التي تفرق بينهما.

ويبقى التعلق بالدنيا من أعظم أسباب الفرقة والتنازع والتدابر …، التعلق بالدنيا والتنافس المذموم على مكاسبها ومغانمها يطبع الجفاء والغل والحسد والحقد…على القلوب، ويجر النفوس جرا إلى مهاوي الإنتكاسة الروحية والهزيمة النفسية، قال الله تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)آل عمران/ 152.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتئ ينصح أمته، ويذكرها مرات ومرات، أنه لا يخشى عليها الفقر، ولكنه يخاف عليها الدنيا وبسطتها، وبحبوحة الحياة ورفاهيتها. فعن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف بني عامر بن لؤي البدري، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين وسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- على الرغم أن المعهود فيهم صلاتهم للفجر تكون بمساجدهم الكائنة في ضواحي المدينة – فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم”. قال أبو عيسى هذا حديث صحيح.

ومهما بلغ العبد من رغد العيش وسعته، ومهما ترقى في العلم و التقى والورع، فيبقى دائما مفتقرا إلى دفء الأخوة في الله، محتاجا إلى من يواده ويؤازره، محتاجا إلى من يذكره بالله إذا غفل، ويعينه على ذكر الله إذا ضعف، وينصحه إذا زل.

نعم، يحتاج العبد إلى أخيه، يحتاج إلى دفء الأخوة في الله، فالأيام دول، وقد تباغته فتن ومحن الزمان، فيسعى حينئذ إلى من يقف بجانبه ويواسيه في شدة الحال.

يجب أن نعترف بأن لا دواء لبلية الضغائن وعلة الأحقاد وضنى القطيعة، والتي شرعت تنخر كيان الدعوة إلى الله إلا دواء واحدا، هو العود إلى المنبع الذي تسقى من خلاله الأخوة في الله، إنه منبع الإسلام.

لن تبرأ القلوب من عللها، وتصفو النفوس من لوثاتها إلا بضخ دماء الألفة والمحبة في عروق الأخوة في الله، حتى تثمر لا محالة بإذن الله ثمرات من الطمأنينة في الفؤاد وخيرات من راحة في البال وهدوء في الضمير.

مع دفء الأخوة، لا يخاف العبد من أخيه هضما ولا غدرا، لا يخشى أذى ولا كيدا… فالمشاعر الصادقة للحب في الله تمج ذلك وتبغضه..

المشاعر الصادقة للحب والود لا ترضى بأخوة المصالح والمغانم، وصداقة المنافع والمكاسب التي شاعت عند البعض في هذا الزمان.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” أن رجلاً زار أخاً له في قربة أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً ، فلما أتى عليه، قال : أين تريد؟، قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال : هل لك عليه من نعمة تربها؟، قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه ). رواه مسلم ، باب في فضل الحب.

ويبقى السبيل الوحيد للإحساس بدفء الأخوة، ومشاعر الود والألفة، هو المحبة الخالصة لوجه الله الكريم.

السبيل الوحيد لكل ذلك هو المحبة لله وفي سبيل الله.

فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى