خديجة: الزوجة الحانية – علياء زحل

لم تتردد في طلب الزواج منه بعدما حكى لها خادمها ميسرة عن حسن خلقه وبركته، لم يثنها عن ذلك كبرياء الأنثى وعزة المرأة العربية، لقد رأته كفؤا لها وهي الغنية المقتدرة رغم يتمه وفقره وفارق السن بينهما….ووافق صلى الله عليه وسلم على الزواج منها وهي أرملة ذات ولد وهو شاب في مقتبل العمر.
زواج كهذا بمقاييس مجتمعاتنا العربية اليوم مرفوض، ترفضه العائلة وتلوكه الألسنة ويتوقع له الكل نهاية فاشلة… لكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد لم يكن كذلك، وافق عليه الكل وباركه الجميع، وكان لها نعم الزوج المحب الحاني، وكانت له الزوجة والأم وكل شيء..
كان زواجا مثاليا حكت عنه الكتب وخلده التاريخ، ليس فقط لأنه  زواج خاتم المرسلين، ولكن لأن الزوجين أيضا ضربا فيه أروع الأمثلة في الحب والتضحية والوفاق والوئام.
كانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات حسب ونسب ومال، وكان يمكنها ان تختار أكثر القوم جاها ومالا وسلطانا، لكنها اختارت رويعي الغنم اليتيم الفقير لأنه كان افضلهم صدقا وأمانة، فاختارت ما يبقى على ما يفنى فبارك الله زواجها.
وكان هو صلى الله عليه وسلم في اوج شبابه وعنفوانه، وكان يمكنه ان يختار فتاة صغيرة في مثل عمره بكرا يلاعبها وتلاعبه، لكنه لم يفعل، كأنه لم يحب أن يكسر نفس هذه المرأة الطيبة التي طلبته للزواج، والتي رأى فيها نضجا وشجاعة ودماثة خلق ورجاحة عقل، فآثر هو أيضا ما يبقى على ما يفنى، فكان ان توفر في هذا الزواج أولى علامات النجاح: حسن الاختيار.
ثم نشأت بعد ذلك بين الاثنين علاقة جميلة رائعة لم تزدها الأيام إلا قوة ومتانة.
كانت خديجة رضي الله عنها نعم الزوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تبخل عليه لا بمال ولا نصح، وقدمت له ما لم تقدمه اي إمرأة بعدها.
روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء))
نعم لقد آمنت به وصدقته إذ كذبه الناس، فكانت أول من آمن به، كيف لا وقد كانت الشاهد الأول على نزول الوحي وبقيت وفية له ولدعوته صابرة محتسبة إلى أن وافتها المنية في شعب ابي طالب إبان الحصار.
وأيضا واسته بمالها لما رأت انه يتيم فقير لا أب يعطيه ولا جد يمنعه ويحميه، فكانت الكريمة السخية المساندة.
وبارك الله هذا الزواج فرزق صلى الله عليه وسلم منها ستا من الولدَ: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله والقاسم.
فكانت الزوجة والحبيبة وأم الولد…فأحبها النبي صلى الله عليه وسلم ورعى فضلها ومكانتها فلم يتزوج غيرها حتى ماتت.
روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت))
وإليكم موقفا من المواقف التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها كل هذا الحب، إنه موقف أبانت فيه عن رباطة جأش وحكمة وثقة بزوجها بل وثقة بالله أنه لن يخيبه ويخزيه:
لقد جاءها خائفا مذعورا يوم اتاه الملك في غار حراء أول مرة فقال: زملوني زملوني.. وحكى لها ما رأى وقال لها: لقد خشيت على نفسي.. كأنه علم أنه سيجد عندها الأمان والسكينة والاطمئنان.
فكان ذلك، فقد أجابته بجواب الزوجة المحبة الواثقة: ( لا والله ما يخزيك الله ابدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
اي لا داعي للخوف يا زوجي الحبيب فأنت أهل لكل خير وما تتحلى به من كرم وسخاء ورحمة بالضعفاء والمحتاجين لا يمكن أن يعقبه إلا خير.
لقد أعادت بهذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثقة بنفسه وبما وهبه الله تعالى من عطايا وميزات، وذكرته بربه وانه كريم مع الكرماء، رحيم بالرحماء، وهو صلى الله عليه وسلم رحيم كريم فأنى لربه أن يسلط عليه ما يضره ويخزيه.
كم هو جميل أنها ابانت عن معرفة بزوجها وبمناقبه، وحسناته ومزاياه، فاستغلت هذه المعرفة لتدخل السرور عليه بذكرها له كلما ضاق صدره واغتم قلبه، فيعود له سلامه الداخلي وراحته النفسية…
مهلا.. فلازال المشهد لم ينته.
تكتمل روعة المشهد عندما تذهب خديجة بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل حتى يزيل عنه ما تبقى من خوف وحيرة: (إنه الناموس الذي أنزل على موسى).
هو وحي الله إذا فلا داعي للقلق.
لقد حققت خديجة رضي الله عنها بتصرفاتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  المقصد الأسمى من الزواج حتى قبل أن ينزل بذكره القرآن:
 (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم 21
نعم إنها أهم أركان الزواج ودعائمه: السكينة والمودة والرحمة، وزواج تغيب فيه هذه الأركان إنما هو قطعة من العذاب.
إن هذه السكينة والطمأنينة التي وفرتها خديجة رضي الله عنها في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي وثقت العشرة وقوت الحب.. حب استمر حتى بعد موتها.. ولم يعوض فقدها أحد حتى عائشة الصبية المدللة. 
روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها))
إنه كان يكثر من ذكرها حتى بعد موتها وهذه علامة واضحة على المحبة لذلك غارت منها عائشة أم المؤمنين ما لم تغره من أي إمرأة أخرى.
كيف لا تغار وقد كان صلى الله عليه وسلم يعبر عن حبه لها في كل المناسبات بالكلمة أو بالفعل. 
روى مسلم أيضا في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبها))
نعم لقد رزق حبها.. وهو لا يستحي من ان يعترف لزوجته بذلك.. بل وبقي وفيا لذكراها ولكل قريب منها يذكره بها، فكان يكرم صويحبات خديجة لا لشيء إلا لانهن صويحبات خديجة.. ويحب أخت خديجة لا لشيء إلا لأنها اخت خديجة.. وخديجة اهل لكل ذلك الوفاء وأهل لكل ذلك الود.
روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد – أخت خديجة – على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدل الله خيراً منها)). 
ولم تحظ خديجة رضي الله عنها  جزاء حسن تبعلها لزوجها وإشاعة السكينة في بيتها، بحب الرسول صلى الله عليه سلم ووفائه فقط. بل حظيت بأكثر من ذلك: سلام الله عليها من فوق سبع سماوات، وتبشيره لها بالجنة:
روى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب))
والصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب: التعب.. فنفى عنه الله تعالى ما في بيوت الدنيا من آفة جلبة الأصوات وتعب تهيئتها وإصلاحها.
وقد أبدى السهيلي لنفي هاتين الصفتين حكمة لطيفة فقال: (لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة رضي الله عنها طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها) الروض الآنف 1/279- فتح الباري 7/138
فهلا اقتديت أختي المسلمة بخديجة في أخلاقها، فأخليت بيتك من صخب الأصوات المرتفعة ومن تعب منازعة الزوج ومعاندته، بل تكونين له المعينة المؤنسة، وتملئين بيتك سكينة ومودة وسلام، لعل الله أن يرزقك ما رزق خديجة: بيتا في الجنة لا نصب فيه ولاتعب..
ألا إن سلعة الله غالية..
د. علياء زحل

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى